فصل: النظر الثالث: في إتلاف البهائم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الذخيرة في فروع المالكية ***


النظر الثاني‏:‏ في دفع الصائل

وهو في المدفوع، والمدفوع عنه، والدفع‏.‏

وفي الجواهر‏:‏ أما المدفوع، فكل صائل، إنسانًا كان أو غيره، فمن خشي من ذلك فدفعه عن نفسه فهو هدر، حتى الصبي والمجنون إذا صالاً، أو البهيمة؛ لأنه ناب عن صاحبها في دفعه‏.‏ والمدفوع عنه‏:‏ كل معصوم من نفس، أو بضع، أو مال، قال القاضي أبو بكر‏:‏ أعظمها‏:‏ النفس، وأمره بيده إن شاء سلم نفسه، أو يدفع عنها، ويختلف الحال ففي زمان الفتنة‏:‏ الصبر أولى تقليلاً لها، أو مقصودًا وحده فالأمر سواء، وأعظم من الجميع‏:‏ الدين، وهو أقوى رخصة؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان‏)‏ وأما الدفع‏:‏ فقال القاضي‏:‏ لا يقصد القتل، بل الدفع، فإن أدي للقتل فذلك، إلا أن يعلم أنه لا يندفع إلا بالقتل فيقصد ابتداء، ولو

قدر المصول عليه على الهرب من غير مضرة تلحقه، لم يدفع بالجرح وإلا دفع بما يقدر، ولا يتعين قصد العضو الجاني؛ لأن الشر من نفس الصائل، فإن عض يد غيره فنزع اليد فتبددت أسنانه؛ ضمن النازع دية الأسنان، لأنها من فعله، وقيل‏:‏ لا يضمن؛ لأنه ألجأه إلى ذلك، وإن نظر إلى حرم من كوة لم يجز أن يقصد عينه أو غيرها، لأنه لا يدفع المعصية بالمعصية، وفيه القود إن فعل، ويجب تقدم الإنذار في كل دفع‏.‏

تمهيد‏:‏ في الصحاح‏:‏ ‏(‏كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل‏)‏ وعليه اعتمد عثمان رضي الله عنه على أحد التأويلات، ولأنها تعارضت مفسدة ‏(‏أن يقتل أو‏)‏ يمكن من نفسه، والتمكين من القتل أخف مفسدة من القتل فيقدم، والفرق بين أن يمكن من قتل نفسه، أو يترك الغذاء أو الشراب حتى يموت‏:‏ أن ترك الغذاء هو السبب التام في الموت لم ينضف إليه غيره، ولا بد أن ينضاف فعل الصائل للتمكين، والفرق بين من ترك الغذاء يحرم، ومن ترك الدواء فلا يحرم‏:‏ أن الدواء غير منضبط النفع، فقد يفيد وقد لا، والغذاء ضروري النفع‏.‏

النظر الثالث‏:‏ في إتلاف البهائم

في الجواهر‏:‏ ما أكلته من الزرع بالنهار، لا ضمان على أربابها؛ لأن على أرباب الحوائط الحفظ نهارًا، قال محمد بن حارث، وهذا الكلام محمول على أن

أهل المواشي لا تهملها نهارًا، ويجعلون معها حافظًا، وإلا فإن أهملوا ضمنوا ما أتلفته ليلاً، وإن كان أضعاف قيمتها، كان ذلك الزرع أو الكرم محجورًا عليه أم لا، محروسًا أم لا؛ لأن على أهل المواشي حفظها ليلاً، قال القاضي أبو الوليد‏:‏ هذا مختص بالموضع الذي يكون فيه الزرع، أو الحوائط مع المسارح، أما المختص بالمزارع دون المسارح فيضمنون ليلاً ونهارًا‏.‏

فرع مرتب‏:‏

قال مطرف عن مالك‏:‏ يضمنون قيمة ما أفسدت على الرجاء أو الخوف، وأن يتم أو لا يتم، وإن لم يبد صلاحه، وعن ابن القاسم‏:‏ قيمته لو حل بيعه؛ لأن القيمة عوض الثمن، وقال‏:‏ لا يستأنى بالزرع هل ينبت أم لا، كما يصنع بسن الصغير؛ لأن السن إذا نبتت لم تفت المصلحة، وتأخر نبات الزرع عن إبَّانه يذهب مفسدته‏.‏ في النوادر‏:‏ لو وطئت على رجل إنسان بالليل فقطعتها لم تضمن، بخلاف الزرع والحوائط والحروز‏.‏

فرع‏:‏

في النوادر‏:‏ ما وطئت الدابة بيد أو رجل، أو أصابته بيدها أو فمها، وعليها راكب‏؟‏ قال مالك‏:‏ إن كان الراكب يجريها أو يشيلها أو يضربها فترمح، ضمن لتسببه، أو من فعلها خاصة فهدر؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏جرح العجماء جبار‏)‏ قال‏:‏ قال مالك‏:‏ القائد، والسائق، والراكب ضامنون لما أصابته بيد أو رجل، فإن اجتمعوا فعلى كل واحد ثلث الدية؛ يريد‏:‏ أن الراكب يشركهم في فعل فعله

بها كان عنه فعلها إلا أن ترمح من غير فعل أحد، وفعله عمر رضي الله عنه في مجرى الفرس‏.‏ قال ابن القاسم وأشهب‏:‏ إذا اجتمعوا فما وطئت عليه لم يلزم الراكب، ولزم القائد والسائق؛ لأن الراكب كالتباع لا يقدمها ولا يؤخرها إلا أن يفعل ما يبعثها على ذلك، ولم يكن من السائق والقائد عون فهو الضامن‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ فهو الضامن‏.‏ قال أشهب‏:‏ ما نفجت أو كدمت من غير تهييج من أحد منهم فأجدرهم بالضمان السائق إن كان سوقه يدعوها؛ لأنه خلفها فهي تخافه، وفي الموازية‏:‏ إن وطئت الدابة وعليها راكب صغير لا يضبط ولا يحرك، أو نائم، أو مريض، وذلك عليه، إلا أن يكون لها سائق أو قائد فعليهما دونه، قال مالك‏:‏ يضمن من المرتسمين المقدم إلا أن يحركها المؤخر ‏(‏أو يضربها فعليهما أو يفعل المؤخر‏)‏ ما لا يقدر المقدم على دفعه، قال ابن القاسم‏:‏ يختص به الضمان على عاقلته فيما تحمله العاقلة، قال مالك‏:‏ فإن رمحت من غير فعل واحد منهما فلا شيء عليهما، قال ابن القاسم‏:‏ يضمن قائد القطار ‏(‏ما وطئ عليه أو القطار‏)‏ أو آخره؛ لأنه أوطأه بقوده إياه‏.‏ قال أشهب‏:‏ وقد يضمن اعذر منه، كمن يرى طائرًا فيقع على إنسان فيقتله الطائر، قال مالك‏:‏ لا يضمن الراكب ما كدمت أو ضربت بيد أو رجل، إلا أن يكون منه فعل، بخلاف ما وطأت؛ لأن الركوب سلب المشي لا الكدم، وإن نزل عن دابته فوقعت في الطريق ضمن ما أصابت؛ لأن ذلك يحرم عليه، وله الوقوف عليها في الطرق

لحاجته، أو نزل عنها فيوقفها ولا يضمن، وإن جمحت براكبها وعلم أنه مقلوب ضمن ما أصابت؛ لأن ركوبه سبب ذلك‏.‏ قال أشهب‏:‏ إن ركبها فطارت من تحت يدها حصاة ففقأت عينها فلا شيء عليه‏.‏ قال محمد‏:‏ هذا إن طارت لحفرة وقع الحافر من غير أن يدفعها بحافرها، أما لو أطارتها بحافرها ضمن، وإن ساقها فوقع سرجها أو متاع عليها فأتلف لم يضمن‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ إن رمحت الدابة فصحت إياك، فوطئت؛ ضمنت‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ إن رمحت الدابة فصحت إياك، فوطئت، ضمنت؛ لأنك تهيجها، وإن انفلتت فصحت لرجل يمسكها فقتلته، فهو جبار، إلا أن يكون المأمور عبدًا لغيره، أو حرًا صغيرًا، وإن أفلتت من يدل رجل، أو من مدورها فأفسدت فهدر، وغلبتها إياه على الانفلات كغلبتها للراكب على الجماح‏.‏ قال مالك‏:‏ إن اقتنى كلبا عقورا في داره لماشية وهو يعلم بعقره ضمن‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ يعني إن اتخذه بموضع لا يجوز له، وإلا لم يضمن إلا أن يتقدم له، وعن ابن وهب في الدابة الصؤول في مربطها فانفلتت منه فتفسد‏:‏ لا يضمن صاحبها؛ إلا أن يتقدم له‏.‏ قال أشهب‏:‏ لا يضمن مطلقًا‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ إن اتخذ الكلب فيما له اتخاذه كالصيد أو حراسة الدار، لا يضمن من دخل، دخل بإذن أم لا، إلا أن يعلم ربه أنه يعقر‏.‏ قال محمد‏:‏ أصل ذلك‏:‏ إن اتخذه فيما لا يجوز له، أو لحراسة الدار ضمن، أو بموضع يجوز إلا أنه علم أنه يعقر، وإن اتخذه للسراق ‏.‏ قال مالك‏:‏ إن اقتناه في داره للماشية إن علم أنه يعقر؛ لأن الماشية في الدار لا يخاف عليها، فللناس اتخذه‏.‏ قال مالك‏:‏ إن عرفت الإبل بالعدوى على أهل الزرع بيعت ببلد لا زرع فيه‏.‏

تنبيه‏:‏ وافقنا الشافعي أنه لا يضمن العجل الصائل، والمجنون، والصغير، وقال ‏(‏ح‏)‏‏:‏ يباح له الدفن ويضمن، واتفقوا إذا كان آدميًا بالغًا لم يضمن‏.‏ لنا‏:‏ أن الأصل‏:‏ عدم الضمان، وقياسًا على الآدمي وعلى الدابة المعروفة بالأذى أنها تقتل ولا يضمن إجماعًا، ولا يلزمنا إذا غصبه فصال عليه؛ لأنه يضمن ثمنه ‏(‏بالغصب لا بالدفع إذا اضطره الجوع؛ لأن الجوع القاتل في نفس الجوع‏)‏ لا في الصائل، والصيال القاتل في الصائل‏.‏احتجوا‏:‏ بأن مدرك عدم الضمان إنما هو إذن المالك لا جواز الفعل؛ لأنه لو أذن له في قتل عبد لم يضمن، ولو أكله لمجاعة ضمن، والآدمي له قصد واختيار فلذلك لم يضمن، والقيمة لا اختيار لها؛ لأنه لو حفر بئرًا فطرح إنسانًا نفسه فيها لم يضمنه، ولو طرحت بهيمة نفسها ضمنها، وجناية العبد تتعلق برقبته، وجناية البهيمة لا تتعلق برقبتها، وعموم قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏جرح العجماء جبار‏)‏ أي هدر، فلو ضمن لم يكن جبارًا كالآدمي‏.‏

والجواب عن الأول‏:‏ أن الضمان يتوقف على جواز الفعل؛ بدليل أن الصيد إذا صال على محرم لم يضمنه، أو صال على العبد ‏(‏سيده فقتله العبد، أو الأب على ابنه فقتله ابنه‏)‏، لا يضمنون لجواز الفعل‏.‏

وعن الثاني‏:‏ أن البهيمة لها اختيار اعتبره الشرع؛ لأنه الكلب لو استرسل بنفسه لم يؤكل صيده، والبعير الناد يصير جميعه منحرًا على أصلهم، وإن فتح قفصًا فقعد الطائر ساعة ثم طار، قلتم‏:‏ لا يضمن لأنه طار باختياره، وأما قولهم

في الآدمي‏:‏ لو طرح نفسه في بئر لا يضمن بخلاف البهيمة، فيلزمكم أنه لو نصب شبكة فوقعت فيها بهيمة لا يضمنها، وأما تعلق الجناية برقبة العبد؛ فيبطل بالعبد الصغير فإنه تتعلق الجناية برقبته مع مساواته للدابة في الضمان‏.‏

وعن الثالث‏:‏ أن كونه جبارًا أنه لا قصاص فيه، ولا يلزم عن عدم اعتباره ‏(‏في القصاص عدم اعتباره‏)‏ مطلقًا، أو معناه‏:‏ يوجب ضمانًا على مالكه، والنزاع في الضمان على قاتلها‏.‏

تنبيه‏:‏ إن أرسل الماشية بالنهار للرعي، أو انفلتت فأتلفت فلا ضمان، وإن كان صاحبها معها وهو يقدر على منعها فلم يمنعها ضمن، ووافقنا ‏(‏ش‏)‏ و‏(‏ح‏)‏‏.‏ فإن انفلتت بالليل أو أرسلها مع قدرته على منعها ضمن، وقاله ‏(‏ش‏)‏ في الزرع‏.‏ وفي غير الزرع اختلاف عندهم، وقالوا‏:‏ يضمن أرباب القطط المعتادة الفساد؛ ليلاً أفسدت أو نهارًا، وإن خرج الكلب من داره فجرح ضمن، أو الداخل بإذن، فوجهان، أو بغير إذن لم يضمن، وإن أرسل الطير فالتقط حب الغير لم يضمن ليلاً ونهارًا، وقال ‏(‏ح‏)‏‏:‏ لا ضمان في الزرع ليلاً كان أو نهارًا‏.‏ لنا‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم‏)‏ الآية؛ وجه الدليل‏:‏ أن داود عليه السلام قضى بتسليم الغنم إلى أرباب الزرع قبالة زرعهم، وقضى سليمان عليه السلام بدفعها لهم ينتفعون بدرها ونسلها وخراجها حتى يخلف الزرع وينبت زرع آخر، والنفش رعى الليل،والهمد‏:‏ رعى النهار بلا راع، ولأنه فرط فيضمن كما لو كان حاضراً؛ ولأنه بالنهار يمكنه التحفظ ‏(‏دون الليل، وقد اعتبرتم ذلك في قولكم‏:‏ إن رمت الدابة حصاة كبيرة أصابت إنسانًا ضمن الراكب، بخلاف الصغيرة لا يمكنه التحفظ‏)‏ منها ويتحفظ عن الكبير بالتنكب عنه، وقلتم‏:‏ يضمن ما نفجت

بيدها؛ لأنه يمكنها ردها بلجامها، ولا يضمن ما أفسدت برجلها وذنبها‏.‏ احتجوا بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏جرح العجماء جبار‏)‏ وبالقياس على النهار، وما ذكرتم من الفرق بالحراسة بالنهار باطل؛ لأنه لا فرق بين من حفظ ماله فأتلفه إنسان، أو أهمله فأتلفه أن يضمنه في الوجهين، وقياسًا على حراسة الإنسان على نفسه وماله وجناية ماله عليه، وجنايته على مال أهل الحرب أو أهل الحرب عليه، وعكسه جناية صاحبه البهيمة‏.‏

والجواب عن الأول‏:‏ أن الجرح عندنا جبار؛ إنما النزاع في غير الجرح، واتفقنا على تضمين السائق والراكب والقائد‏.‏

وعن الثاني‏:‏ الفرق المتقدم، والجواب عما ذكر‏:‏ أن إتلاف المال سبب المالك، كمن ترك غلامه يصول فيقبل فلا ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏

وعن الثالث‏:‏ أن يضمن قياس مخالف للآية؛ ولأنه بالليل مفرط، وبالنهار ليس مفرطًا، وبقية التعرض‏:‏ ليس أحدهم من أهل الضمان، وهاهنا أمكن التضمين‏.‏

كتاب الجراح

وفي التنبيهات‏:‏ هو مشق من الاجتراح الذي هو الاكتساب، قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏أم حسب الذين اجترحوا السيئات‏)‏، ومنه جوارح الصيد؛ لاكتسابها، ولما كان عملها في الصيد في الأجساد والدماء سمي بذلك جرحًا، وصار عرفًا فيه دون سائر الاكتسابات، وتجريح الشاهد مجاز؛ كأنه لما قدح في عرضه جرحه في جسمه، وكذلك قالوا‏:‏ طعن فيه؛ فتخصيص اسم الجرح بالكسب الخاص كتخصيص الدابة بالفرس أو الحمار‏.‏ وأصل تحريم الدماء‏:‏ الكتاب، والسنة، والإجماع؛ فالكتاب‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا‏)‏، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث‏:‏ كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، أو قتل نفس‏)‏ وأجمعت الأمم فضلاً عن هذه الأمة على تحريم الدماء‏.‏

سؤال في الآية الثانية‏:‏ التشبيه في لسان العرب إنما يكون بين المتقاربين لا بين المتفاوتين جدًا، وقتل جميع الناس ‏(‏بعيد من قتل النفس الواحدة بعدًا شديدًا، وكذلك إحياؤها، بل قتل واحدة لا تشبه‏)‏ قتل عشرة، فما وجه التشبيه الذي في قوله‏:‏ ‏(‏فكأنما‏)‏‏؟‏ قال بعض العلماء‏:‏ إن المراد بالنفس إمام مقسط، أو حكم عدل، أو ولي ترجى بركته العامة، فلعموم مفسدته كأنه قتل كل من ينتفع به؛ وهم المراد بالنفس، وكذلك إحياؤه، وإلا فالتشبيه مشكل‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لما قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا‏)‏ وقتل جميع الناس لا يزيد في العقوبة على هذا، وهو مشكل؛ لأن قاعدة الشرع‏:‏ تفاوت العقوبات بتفاوت الجنايات، فغاصب درهم ليس كغاصب دينار، وقاتل واحد ليس كقاتل عشرة؛ لأنه العدل في العادة، فإذا توعد الله تعالى قاتل الواحد بالغصب والعذاب العظيم وغير ذلك، اعتقدنا مضاعفة ذلك في حق الاثنين، فكيف في العشرة فضلاً عن جميع الناس‏.‏

فرع‏:‏

في المقدمات‏:‏ ليس بعد الكفر أعظم من القتل، وجميع الذنوب تمحوها التوبة بإجماع إلا القتل قال ابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وزيد بن ثابت‏:‏ إن الوعيد محتم متحتم عليه، لا توبة له للآية المتقدمة، وهي أخص من آيات التوبة وأحاديثها فتقدم عليها، وقاله مالك‏.‏ وقال‏:‏ لا يجوز إمامته وإن تاب، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل ذنب عسى الله أن يعفو عنه إلا من مات كافرًا، أو قتل مؤمنًا متعمدًا‏)‏ قال‏:‏ ولأن من شرط التوبة رد التبعات،

ورد الحياة على المقتول متعذر إلا أن يحالله المقتول قبل موته بطيب نفسه‏.‏ قال‏:‏ ومذهب أهل السنة؛ أن القتل لا يحبط الأعمال الصالحة، فلا بد من دخول الجنة ليجازي على حسناته، وكان ابن شهاب إذا سئل عن توبته، سأل‏:‏ هل قتل أم لا‏؟‏ ويطاوله في ذلك، فإن تبين له أنه لم يقتل، قال‏:‏ لا توبة له، وإلا قال‏:‏ له التوبة، وإنه لحسن في الفتوى‏.‏ ومن توبته عرض نفسه على أولياء المقتول، فإن أقادوا منه وإلا قال‏:‏ لكم الدية، وصام شهرين متتابعين، أو أعتق رقبة، ويكثر من الاستغفار، ويستحب أن يلازم الجهاد ويبذل نفسه لله تعالى، روي كله عن مالك في قبول توبته، فإن قتل القاتل قصاصًا، قيل‏:‏ ذلك كفارة له؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏الحدود كفارات لأهلها‏)‏ وقيل‏:‏ ليس يكون ذلك؛ لأن المقتول لا ينتفع بالقصاص، بل منفعته بالإحياء زجرًا وتشفيًا، والمراد بالحديث‏:‏ حقوق الله تعالى، والمحصور النظر في الجناية، وفي إثباتها، وما يترتب عليها، فهذه ثلاثة أنظار‏.‏

النظر الأول‏:‏ في الجناية

ولها ثلاثة أركان‏:‏

الركن الأول‏:‏ الجاني، وفي الجواهر‏:‏ شروطه‏:‏ التزام الأحكام، فلا قصاص على صبي، ولا مجنون، ولا حربي؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، ويقتص من الذمي لالتزامه أحكامنا في عدم التظالم، والسكران؛ لأن المعاصي لا تكون أسباب الرخص، وفي الكتاب‏:‏ إن جنى الصبي أو المجنون عمدًا أو خطأ، فكل خطأ العاقلة تحمله إن بلغ الثلث، وإلا ففي ماله، ويتبع به دينًا في

عدمه، وما جنى المجنون في إفاقته فكالصحيح، وإن رفع للقود وقد أخذه الجنون، أخر لإفاقته؛ لأنها حالة لا تناسب العقوبة قياسًا على الحدود، ولأنهما غير مكلفين فيكونان كالمخطىء في القصاص أو الدية؛ لأن قتل الخطأ ليس لله تعالى فيه حكم لا تحريم ولا غيره، قال ابن يونس‏:‏ قال محمد‏:‏ هذا في الصبي المميز، أما الرضيع ونحوه كالبهيمة‏.‏ قال اللخمي‏:‏ قال ابن القاسم‏:‏ ابن سنة فأكثر، ما أفسد فعليه، وعنه في ابن سنة ونصف‏:‏ ما أفسد من المال فهدر، أو الدم فعلى العاقلة إن بلغ الثلث، وإلا ففي ماله يتبع به دينًا في ذمته إن لم يكن له مال، وإن أيس من إفاقة المجنون الذي أخر حق يفيق؛ فالدية، قاله محمد‏:‏ كالقصاص المتعذر، وقال المغيرة‏:‏ يسلم لولي المقتول، وإن ارتد، ثم جن لم يقتل حتى يصح؛ لأنه حق لله تعالى يدرأ بالشبهة، والقتل حق العباد‏.‏ قال اللخمي‏:‏ وأرى أن يخير الولي في القصاص أو العفو مع الدية من ماله دون العاقلة‏.‏

فرع‏:‏

في الكتاب‏:‏ إن قتل رجل وصبي عمدًا؛ فالدية عليهما؛ للشك في أيهما مات بهما‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ يريد في الأول أنهما تعاونا عليه، فإن لم يتعاقدا عليه ولا تعاونا عليه، بل رماه هذا عمدًا وهذا عمدًا‏:‏ لم يقتل الرجل عند ابن القاسم؛ لأنه لا يتعين القاتل ويريد في الثاني‏:‏ أن نصف الدية في مال الرجل، ونصفها على عاقلة الصبي‏.‏ قال أشهب‏:‏ يقتل الكبير، وعلى عاقلة الصبي نصف الدية، وإن قتل عبد وحر عبدًا عمدًا قتل العبد، وعلى الحر نصف قيمته في ماله، لأن العاقلة لا تحمل عمدًا، ولا يقتل حر بعبد، وإن قتلا حرًا خطأ؛ فعلى عاقلة الحر نصف الدية، ويخير السيد العبد في إسلامه أو فدائه بنصف الدية‏.‏ قال مالك‏:‏ إن قتل أب ورجلان ابنه عمدًا قتلوا، أو بالرمي والضرب لم يقتل الأب‏.‏ قال عبد الملك‏:‏ عليه ثلث الدية مغلظة، ويقتل

الرجلان، وإن جرحه رجلين خطأ، والآخر عمدًا، قال أشهب‏:‏ يقتسمون على أيهما شاءوا ؛ فإن اقتسموا على المتعمد قتلوه، وعلى المخطئ دية الجناية، قال محمد‏:‏ ذلك إن عرفت جناية العمد من جناية الخطأ، وإن اقتسموا على المخطئ فالدية كاملة على عاقلته، واقتصوا من المتعمد جرحه إن كان مما فيه قصاص، وإلا أخذوا دية جنايته، وقال ابن القاسم‏:‏ فإن عاش بعد موتهم فعنه القسامة إن اقتسموا على المتعمد قتلوه، ولا شيء على الآخر، أو على المخطئ فالدية على عاقلته، ويبدأ المتعمد؛ لأنه لا يقتل بالقسامة إلا واحد، قال محمد‏:‏ ويضرب مائة، ويحبس سنة‏.‏

فرع‏:‏

في الكتاب‏:‏ إن قتل النائم فعلى عاقلته إن بلغ الثلث، وإن نامت على ولدها فديته على عاقلتها وتعتق رقبة‏.‏

فرع‏:‏

إن قتل وليك عمدًا فقطعت يده فله أن يقتص منك؛ لأن يده يوجد لها مبيح، وفي الخطأ الدية على عاقلتك‏.‏

فرع‏:‏

في النوادر‏:‏ إن ضربه، أو رفسته دابة، أو تردي من حائط فمات قعصًا ‏:‏ قال عبد الملك‏:‏ يقتل مشارك الأب، أو الصبي، أو المخطئ، أو الدابة، أو الغرق، أو تردى؛ فلا قسامة، ويستظهر في شركة الدابة والهدم والغرق بالقسامة أنه مات من جرحه؛ لأن ما شاركه من هذه الأمور تشبه الحياة بعد الجرح، وإن

لم يقسموا على شريك ‏(‏للدابة‏)‏ ونحوها، ضرب وسجن، وهذا إذا كان اجتماعهم في فور واحد، فإن افترقوا وعاش بعد ضرب فهو كالفور، وإن كان الأخير فغصه ولم يتأخر بعده فهو قاتله، يقتل إن كان ممن يقتل في العمد، وفي الخطأ الدية بلا قسامة، وإن كان الآخر دابة ونحوه، وقد ذهب دمه هدرًا، ويقتص من جرح الأول في العمد، ويعقل في الخطأ، ومتى أنفذ الأول مقاتله فالحكم له قصاصًا ودية، واختلف قول ابن القاسم إذا شاركه دابة ونحوها فقال مرة‏:‏ يقسمون على العمد، وجعله كحياة المجروح، وقال مرة‏:‏ على المتعمد نصف الدية في ماله بغير قسامة، ويضرب مائة ويحبس‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ إذا اجتمع رجال ونساء وصبيان واقتسموا على رجل أو امرأة فقتلوه، والصبيان خمسة، والرجال والنساء عشرون، فخمس على عواقل الصبيان أخماسًا، قال أشهب‏:‏ قال محمد‏:‏ يقسمون ثانية على الصغار، وعلى عواقلهم قدر ما يقع عليهم، والذي عليه أصحاب مالك‏:‏ أن على من بقي من رجل أو امرأة الحبس والضرب، وإن قالوا‏:‏ تقسم على الصغار؛ أقسموا عليهم ولهم الدية كلها على عواقلهم، ولو كان ذلك بغير قسامة قتل الكبار، فإن كانوا عشرة والصغار خمسة، فعلى عواقلهم ثلث الدية في ثلاث سنين‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ قال مالك‏:‏ قطع يده حر وثلاثة أعبد خطأ، فثلاثة أرباع العقل في رقاب العبيد، وربعه فيم الحر، أو حر أو حران وعبد، فثلثاها على عاقلة الحر، وثلثها في رقبة العبد، وفي العمد يقطع الحران، وثلث ديتها في رقبة العبد، أو مسلم ونصراني خطأ؛ فعلى عاقلتها نصفين، أو عمد قطع المسلم، ونصف العقل في مال النصراني‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ قال ابن القاسم‏:‏ إن أنفذ الأول مقاتله، وأجهز عليه الثاني، اقتص من الأول وعذر الثاني وقد أتى عظيمًا، وعنه‏:‏ أنه يقتل الثاني؛ لأنه المزهق، ويعاقب الأول، وإن قطع حلقومه وبقيت فيها الحياة، وقطع الثاني داجه وحز رأسه قتل الأول، قاله أشهب؛ لأنه لا يعيش مع قطع الحلقوم‏.‏ وقال سحنون‏:‏ إن ضربه أحدهم بعصا وضرب الآخر عنه‏:‏ قتل ضارب العنق فقط، وكذلك إن قطع يده وضرب الآخر عنقه؛ لأنه المنفذ للمقاتل‏.‏

الركن الثاني‏:‏ المجني عليه‏.‏ في الجواهر‏:‏ وشرط ضمانه بالقصاص‏:‏ أن يكون معصومًا، والعصمة بالإسلام، والحرية، والأمان، فإن الحربي والمرتد يهدر الدم، وكذلك الزنديق والزاني المحصن، أما المستحق في قصاص فدم قاتله لأولياء المقتول، وعلى أولياء المقتول آخراً إرضاؤهم، وبعد ذلك شأنهم في قاتل وليهم بالقتل أو العفو، فإن لم يرضوهم فللأولين فقتله أو العفو، ولهم عدم الرضا بالدية أو أكثر منها، وعن ابن عبد الحكم‏:‏ لا دية لولي الأول ولا قود، كما لو مات القاتل؛ فإن كان الثاني خطأ، جرى الخلاف، أما من فقأ عين رجل وفقًا آخر عينه، ثم مات الفاقئ الثاني، فلا شيء للأول لتعذر المحل، فإن قطعت يده من منكبه ثم قطعت من الكف، فللأول قطع كف قاطع قاطعه، أو يقطع من المنكب ففيه يد قاطعه لأنه بقية حقه‏.‏

فرع‏:‏

في النوادر‏:‏ قال سحنون ‏:‏ إن قطع الذمي يد معاهد في دار الإسلام ولحق بأرض الحرب ناقضًا للعهد، فمات من الجرح، فلوليه القصاص في الجراح دون القتل؛ لأنه بعد العصمة، فإن أمنه الإمام فمات فلا قود؛ لأنه سقط بنقض العهد

فلا يعود بالأمان، وعنه‏:‏ إن حلفوا‏:‏ لمات من الجرح، فديته في مال الجاني، عند أشهب‏:‏ يقتل بأيمانهم نظرًا ليوم الموت، وإن قطع مسلم يد مسلم فارتد المقطوع ومات، فغير أشهب يرى للولي قطع اليد، وليس لهم القسامة لمات من ذلك، ويقتلون، ولهم القسامة لأخذ الدية، وفي القول الآخر، يقسمون ويقتلون، وإن اصطلحوا على الدية فدية مسلم؛ لأنه وقت الضرب، وإن قطع مسلم يد نصراني فأسلم فمات من جرحه‏:‏ فلورثته - إن كانوا مسلمين - أن يقسموا لمات من جرحه ويأخذوا دية مسلم، وإن جرح مسلم أو حربي معاهدًا فلحق بدار الحرب وسباه المسلمون، ومات من جرحه، فلا قود فيه على الذمي في النفس، واقتص منه في الجرح، وديته نصف دية نصراني فيأً للمسلمين، قاله عمر بن عبد الرحمن، وقيل‏:‏ دية يد لورثته، فإن أسلم بعد حصوله في يد من صار له ثم مات عبدًا، فلا قصاص على الذمي في النفس؛ لأنه مات عبدًا وللوارث القصاص في اليد‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ قال ابن القاسم‏:‏ إن قال‏:‏ أحد عبدي حر، فقتلهم أو أحدهم رجل قبل أن يسأل السيد من أراد، وقال السيد‏:‏ الآن أردت المقتول؛ لا يصدق في أخذ الدية، وإنما له قيمة عبده، ويصدق أنه أراد الباقي مع يمينه، قال ابن القاسم‏:‏ إن قال‏:‏ لم تكن لي نية واحدة بعينه؛ عتق الباقي، وله في المقتول قيمة عبد، وإن قال ذلك في وصيته ومات فلهما حكم العبيد إن قتلا حتى ينفذ من الثلث‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ قال ابن القاسم وأشهب‏:‏ عقل المرتد في العمد والخطأ عقل ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏

في النفس والجرح، رجع إلى السلام أم لا؛ لأنهم أقل الكفار عقلا، وأنكره سحنون، وقال أشهب‏:‏ عقل الدين الذي أرتد إليه، وإن قتل زنديقًا فلا قصاص ولا دية، قال ابن القاسم؛ لأنه قتل لا بد منه، بخلاف المرتد، وإن قتل المرتد مسلمًا خطأ‏:‏ فالدية من بيت المال؛ لأن المسلمين يرثونه، أو عمدًا فلا شيء في ماله، وإن قتل المرتد نصرانيًا أو جرحه، اقتص منه، كقتل الكافر بالمسلم، وإن جرح مسلما لم يقتص منه، أو قتل مسلمًا قتل به، وإن جرح المرتد أو قتل ثم رجع إلى الإسلام، فإن كان قتل نصرانيًا لم يقتل به، أو حرًا مسلمًا اقتص منه‏.‏

تنبيه‏:‏ ثم المجني عليه قد تكون نفسًا تامة، أو جنينًا، أو عضوًا، أو منفعة، أو همًا معًا‏.‏

الركن الثالث‏:‏ الجناية نفسها، وهي العقل؛ ويتمهد فقهه ببيان العمد، والخطأ، وشبه العمد، وكلها إما مباشرة أو تسببًا، أو هما، أو بطريان أحدهما على الآخر والشركة فيها، فهذه ثمانية أقسام‏.‏

القسم الأول‏:‏ العمد‏.‏ في الجواهر‏:‏ العمد ما قصد فيه إتلاف النفس، وكان مما يقتل غالبًا من محدد، أو مثقل، أو بإصابة المقاتل، كعصر الأنثيين، أو شده وضغطه، أو يهدم عليه بنيانًا، أو يصرعه ويجر برجله على غير اللعب، أو يغرقه، أو يحرقه، أو يمنعه من الطعام والشراب، وأما اللطمة واللكزة؛ فتتخرج على الروايتين في شبه العمد، في نفيه وإثباته، وفي الكتاب‏:‏ إن طرحه في نهر ولا يعلم أنه يحسن العوم على وجه العداوة، قتل، أو على غير ذلك، ففيه الدية، وإن تعمد ضربه بلطمه، أو بلكزه، أو غير ذلك، ففيه القود، ومن العمد ما لا قود فيه كالمتصارعين والمتراميين على وجه اللعب، أو يأخذ برجله على وجه اللعب، ففيه دية الخطأ على العاقلة أخماسًا، فإن تعمد هؤلاء القتل بذلك ففيه القصاص‏.‏ وفي التنبيهات‏:‏ قيل هذا إذا كانا معًا يتفاعلان ذلك، كل واحد منهما مع الآخر،

وهو ظاهر لفظه، أما إذا فعل أحدهما على وجه اللعب، والآخر لم يلاعبه ولا رماه، فالقصاص، قاله مالك‏.‏ وقيل‏:‏ سواء اللعب وغيره منهما أو من أحدهما، وهو الصواب، والتفريق بعيد إذا عرف قصد اللعب، وتكون رواية عبد الملك‏:‏ أنه ذلك كالخطأ خلافًا، وكذلك اختلف في الأدب والعقل الجامع كالحاكم، والجلاد، والمؤدب، والأب، والزوج، والخاتن، والطبيب، فقيل‏:‏ كالخطأ ويدخلهما الاختلاف في شبه العمد، قال اللخمي عن ابن وهب‏:‏ دية اللعب مغلظة الأخماس‏.‏

القسم الثاني‏:‏ الخطأ‏.‏ وفي الجواهر‏:‏ الخطأ‏:‏ ما لا قصد فيه للفعل، كما لو سقط على غيره، أو ما لا قصد فيه للفعل إلى الشخص، كما لو رمى صيدًا فقتل إنسانًا وظن الإباحة تصير العمد خطأ؛ كقاتل رجل في أرض الحرب غلبة وفي الكفارة وهو مسلم، فلا قصاص، وفيه الكفارة والدية، أو قتل رجلاً عمدًا يظنه ممن لو قتله لم يكن فيه قصاص، فلا قصاص‏.‏

القسم الثالث‏:‏ شبه العمد‏.‏ وفي التنبيهات‏:‏ هو ما أشكل أنه أريد به القتل ولم يره مالك إلا في الآباء مع أبنائهم، وغيره يرى فيه الدية مطلقًا مثلثة عند ‏(‏ش‏)‏ ومربعة عند ‏(‏ح‏)‏، وصفته عندهم في غير الأباء‏:‏ أن يضربه عمدًا على وجه الفائدة والغضب، ولا يقصد قتله، وبغير آلة كالسوط والعصا ‏(‏قال اللخمي ‏:‏ شبه العمد أربعة أقسام‏:‏ بغير آلة كالسوط والعصا‏)‏ والبندقة إلا أن يقوم دليل العمد لقوة الضربة، أو بآلة القتل ممن لا يتهم كالأبوين، أو ممن‏.‏‏.‏‏.‏ كالطبيب وصفته‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وتقدم بسط منع إرادته كالمصارع‏.‏ قال في المقدمات‏:‏ إن قصد

الفعل دون القتل فثلاثة أقسام‏:‏ لعب، وأدب، وفائدة‏.‏ ففي الأول‏:‏ ثلاثة أقوال، قال ابن القاسم‏:‏ هو خطأ، وروايته عن مالك في الكتاب، وروى عبد الملك‏:‏ هو عمد يقتص به، وتأول الأول على أن صاحبه لاعبه، وبقي الخلاف، والظاهر‏:‏ ثبوته، والثالث، ابن وهب‏:‏ هو شبه العمد، تغلظ ديته على الجاني في ماله‏:‏ ثلاثون حقه، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، والتفرقة بين أن يلاعبه أم لا قول رابع، وفي الأدب تجري الثلاثة الأقوال الأُول، وقال الباجي‏:‏ إنما يختلف في تغليظ الدية ولا قصاص بحال، وهذا إذا علم أنه ضربه أدبًا، وإن لم يعلم ذلك إلا من قوله، ففي تصديقه قولان‏:‏ إن الظاهر يقتضي القصاص، وفي النائرة قولان‏:‏ المشهور‏:‏ القصاص إلا في الأب وألأم والجد، وعنه‏:‏ لا قصاص، وهو شبه العمد، فعله فيه الدية، وعليه أكثر أهل العلم ‏(‏ش‏)‏ و‏(‏ح‏)‏ وغيرهما، واختلفوا هل يختص بالتعيين، قاله ‏(‏ح‏)‏ وصاحباه، أم لا، واختلفوا في صفته، فقال ‏(‏ح‏)‏‏:‏ لا يقتص إلا فيمن قتل بحديدة أو ضهطة الغضب أو النار، وقيل‏:‏ لا يقتص إلا في الحديدة، وإن قصد القتل فقسمان‏:‏ غيلة فيقتل على كل حال؛ لأنه حرابة، ونائرة، خير الولي في القصاص والعفو إلا لمن يقتل بعد أخذ الدية، فقيل‏:‏ لا يجوز للولي العفو، بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم‏)‏، وعن النبي عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا أعفي رجلا قتل بعد اخذ الدية‏)‏ هذا نص المقدمات‏.‏ والشافعية يسمونه عمد الخطأ، والجناية شبه العمد‏.‏ واحتج الأئمة على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم في أبى داود وغيره‏:‏ ‏(‏ألا إن دية الخطأ في شبه العمد ما كان بالسوط والعصا‏:‏ مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها‏.‏

ويروى‏:‏ ألا أن في قتيل العمد الخطأ قتيل السوط والعصا‏:‏ مائة من الإبل‏)‏ وفسره الأئمة بالضرب بما لا يقتل غالبًا، كالعصا الصغير والسوط ونحوه‏.‏ وقال القاضي في المعونة‏:‏ اجتمع شبه العمد؛ لأنه ضربه بما لا يقتل غالبًا، وشبه الخطأ، لأنه لم يقصد القتل، فلم يعط حكم أحدها، فغلظت الدية‏.‏ واحتج أصحابنا بأن الله تعالى لم يذكر في كتابه العزيز إلا العمد والخطأ، ولو كان ثالث لذكره لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ما فرطنا في الكتاب من شيء‏)‏‏.‏

القسم الرابع‏:‏ في بيان المباشرة‏.‏ وفي الجواهر‏:‏ هي ما يترتب عليه زهوق الروح بغير واسطة؛ كحز الرقبة، أو بواسطة؛ كالجراحات المفضية للموت، أو ما يقوم مقامها كالخنق والحرق والتغريق وشبهه، وتحديده‏:‏ ما يعده أهل العادة علة الزهوق من غير واسطة‏.‏

القسم الخامس‏:‏ السبب، وفي الجواهر‏:‏ هو كحفر البئر حيث لا يؤذن له قصد الإهلاك، والإكراه، وشهادة الزور في القصاص على إحدى الروايتين، وتقديم الطعام المسموم للضيف، وحفر بئر في الدهليز، وتغطيته عند دخول الداخل أو حفره؛ ليقع فيه، ثم وقع فيه غيره، وضابطه ‏:‏ ما تشهد العادة أنه لا يكفي في زهوق الروح، وأن له مدخلا فيه‏.‏

القسم السادس‏:‏ اجتماع السبب والمباشرة، وله ثلاث رتب‏:‏

الرتبة الأولى‏:‏ تغليب السبب على المباشرة، وفي الجواهر‏:‏ هو ظاهر إذا لم تكن المباشرة عدوانًا كفر بئر على طريق الأعمى ليس فيها غيره، ولا طريق له غيرها، أو طرحه مع سبق في مكان ضيق أو أمسكه على ثعبان مهلك، أو قدم الطعام المسموم، أو غطى رأس البئر في الدهليز، واتفقت الرواية على تغليب السبب في شهود القصاص إذا رجعوا بعد الاستيفاء والولي غير عالم بالتزوير، وإلا

فالولي معهم شريك؛ لاعتدال السبب مع السبب مع المباشرة‏.‏ وعن مالك‏:‏ إن حدد قصبًا أو عيدانًا في باب الجنان لتدخل في رجل الداخل من سارق أو غيره‏:‏ فيه الدية دون القود؛ لأنه فعله في ملكه‏.‏ قال أشهب‏:‏ وكذلك إن حفر بئرًا في أرضه؛ ليسقط فيه سارق أو طارق، وكذلك إن جعل على حائطه شركًا، فإنه يضمن‏.‏ قال محمد‏:‏ إن تمادى بالإشارة بالسيف عليه وهو يهرب - وهو عدوه - فهرب حتى مات، فالقصاص، وإن مات من أول الإشارة، فالدية على عاقلته، وقال ابن القاسم‏:‏ إن طلبه بالسيف فما زال يجري حتى مات، يقسم ولاته، لمات من خوفه، ويقتل، وإن أشار فقد فمات، وبينهما عداوة، فهو من الخطأ، وقال عبد الملك‏:‏ إن طلبه بالسيف فعثر فمات، فالقصاص، وقاله ابن القاسم، وقال ابن ميسر‏:‏ لا قصاص في هؤلاء؛ لأنه قد يكون مات من شدة الجري لا من الخوف، أو منهما، ولا يمكن القصاص إلا على نفي شبهة العمد، واستحسنه جماعة من القرويين، وإن طرح عليه حية لا يلبث لديغها على غير وجه اللعب، مثل تعود الجرأة، قتل به، ولا يصدق في إرادة اللعب، وإنما اللعب ما يفعله الشباب بعضهم ببعض، فإنهم لا يعرفون غائلة أنواع الحيات، فهذا خطأ‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ إن قال له‏:‏ اقطع يدي أو يد عبدي فعلى المأمور العقوبة لحق الله تعالى، ولا غرم عليه في الحر ولا غيره للإذن‏.‏

الرتبة الثانية‏:‏ أن تغلب المباشرة لسبب، كحافر البئر في داره لنفع نفسه فردى فيها رجل رجلا فالقود على المردي دون الحافر تغليبًا للمباشرة لعدم العدوان في السبب، وتحقق فيه‏.‏

الرتبة الثالثة‏:‏ اعتدال السبب والمباشرة فيقتص منها؛ كالإكراه على الفعل، يقتل المكره لقوة الجائه، والمكره لأنه المباشر، ويلحق به من تتعذر مخالفته، كالسيد

يأمر عبده، والسلطان يأمر رجلاً، فأما الأب يأمر ولده، والمعلم يأمر صبيًا، والصانع بعض متعلميه، والمأمور محتلم، قتل وحده دون الآمر، أو غير محتلم، أو قتل الآمر لقوة الجائه لضعف جنان الصبي، وعلى عاقلة الصبي نصف الدية لمشاركته، قاله ابن القاسم، وقال ابن نافع‏:‏ لا يقتل الأب ولا السيد، وإن أمر أعجميًا، أما من تخاف مخالفته، فيقتل المأمور دون الآمر، ويضرب الآمر ويحبس، فإن أمسك القاتل اقتص منها للاعتدال، وشرط القاضي أبو عبد الله البصري من أصحابنا في الممسك أن يعلم أنه لولاه لم يقدر الآخر على القتل، وكالحافر عدوانا مع المردي، كمن حفر بئرًا ليقع فيها رجل فردي ذلك الرجل فيها غير الحافر‏.‏ قال القاضي أبو الحسن‏:‏ يقتلان للاعتدال، وقال القاضي أبو عبد الله بن هرون‏:‏ يقتل المردي دون الحافر، تغليبًا للمباشرة، وكشهود القصاص مع الوالي كما سبق بيانه‏.‏

فرع‏:‏

في الكتاب‏:‏ إن سقاه سما قتل به بقدر ما يرى الإمام‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ قال ابن حبيب‏:‏ إن قال‏:‏ سقاني سمًا وقد تقيأ منه، ‏(‏أو لم يتقيأ‏)‏ فمات منه ففيه القسامة ‏(‏ولا يقاد من ساقي السم، وإن شهد شاهدان أنه سقاه سمًا، ففيه القسامة‏)‏ قال أصبغ‏:‏ إن قدمت إليه امرأته طعامًا فلما أكله تقيأ أمعاءه مكانه، فأشهد أنها امرأته وخالتها فلانة، فإن أقرت امرأته أن الطعام أتت به خالتها ففيه القسامة، وقوله‏:‏ امرأتي وخالتها، يكفي، وإن لم يقل منه أموت، فإذا ثبت قوله بشاهدين أقسموا على إحدى المرأتين فتقتل، ولا ينفع المرأة قولها‏:‏ خالتي أتتني به، وتضرب الأخرى مائة وتحبس سنة‏.‏

فرع‏:‏

في الكتاب‏:‏ إذا دفع لصبي دابة يهيئها، أو سلاحًا فمات بذلك فديته على عاقلته، ويعتق رقبة، وإن حمله على دابته يمسكها، فوطئت رجلاً فقتلته، فالدية على عاقلة الصبي؛ لأنه المحرك للدابة بركوبه عليها، ولا رجوع لعاقلته على العاقلة الأخرى‏.‏

القسم الرابع‏:‏ في طريان المباشرة على المباشرة فيقدم الأقوى، فإن جرح الأول وحز الثاني الرقبة اقتص من الثاني، أو أنفذ الأول المقاتل وأجهز الثاني، اقتص من الأول بغير قسامة، وبولغ في عقوبة الثاني، قاله ابن القاسم، وعنه‏:‏ يقتل المجهز ويعاقب الأول، وإن اجتمعوا على ضربه فقطع هذا يده، وقلع الآخر عينه، وجدع الآخر أنفه، وقتله آخر، وقد اجتمعوا على قتله فمات مكانه؛ قتلوا به؛ لاشتراكهم فيه، وإن كان جرح بعضهم أنكى، ولا قصاص له في الجراح ما لم يتعمدوا المثلة مع القتل، وإن لم يريدوا قتله اقتص من كل بجرحه، وقلت قاتله، وإن قتل مريضًا مشرفًا قتل‏.‏

القسم الثامن‏:‏ في الشركة في الموجب، وفي الجواهر‏:‏ كما إذا حفر بئرًا فانهارت عليهم فمات أحدهما‏:‏ قال أشهب‏:‏ على عاقلة الآخر نصف الدية، وكما لو جرح نفسه وجرحه غيره فمات، فيجب له أرش ما يقابل فعل الغير‏.‏

النظر الثاني‏:‏ في إثبات الجناية

وله ثلاثة طرق‏:‏ الإقرار، والبينة، والقسامة‏.‏

الطريق الأول‏:‏ الإقرار‏.‏ وفي الكتاب‏:‏ إن أقر بقتل خطأ واتهم أنه أراد مناولة المقتول كالأخ والصديق، لم يصدق، أو من الأباعد صدق إن ثقة

مأمونًا لم يخف أن يرشي على ذلك، ثم تكون الدية على عاقلته بقسامة لا بإقراره في ثلاث سنين، فإن لم يقسم الأولياء فلا شيء لهم ولا في مال المقر، كما لو ضرب رجل فقال‏:‏ قتلني فلان خطأ، صدق، وتحمله العاقلة بالقسامة، وإلا فلا شيء لهم ولا في مال المدعي عليه‏.‏

الطريق الثاني‏:‏ البينة‏.‏ وفي الكتاب‏:‏ إن شهد شاهد بقتل خطأ أقسم أولياء القتيل واستحقوا الدية على العاقلة، ويعتق رقبة، فإن شهد آخر على إقرار القاتل بذلك لم يجب لهما على العاقلة شيء إلا بالقسامة؛ لأن الإقرار لا يوجب عليهم شيئًا، ولا يثبت إقرار القاتل إلا بشاهدين، وحينئذ يقسمون؛ لأنه حكم مشترط فيه النصاب، وتجوز شهادة النساء في جراح الخطأ وقتل الخطأ؛ لأنه مال، وإن شهد مع رجل على منقلة، أو مأمومة عمدًا جازت شهادتهم؛ لأن عمدها كخطئها‏.‏ قال في النكت‏:‏ إن شهد واحد على الإقرار بالدين حلف معه، والفرق‏:‏ أنه مقر على نفسه، القاتل مقر على غيره الذي هو العاقلة، فهو كشاهد على العاقلة، وإنما تتم الشهادة عليه إذا لم يعرف منه إنكار، فإن أنكر قول الشاهدين بطلا كالشهادة على الشهادة، والأصل منكر، قاله أشهب، وجعله شاهدًا، وعلى هذا لا يشهدان عليه إلا أن يأذن لهما بالشهادة عليه‏.‏

فرع‏:‏

في الكتاب‏:‏ ليس في جرح قسامة، ويحلف مع الشاهد الواحد يمينًا واحدة، ويقتص في العمد، ويؤخذ العقل في الخطأ، قال ابن القاسم‏:‏ أثبت بذلك القصاص وليس بمال استحسانًا‏.‏

نظائر، قال العبدي‏:‏ الذي يثبت بالشاهد واليمين أربعة‏:‏ القصاص في الجراح، والخلطة، والكفالة، والأموال‏.‏

فرع‏:‏ في الكتاب‏:‏ يحلف ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌مع الشاهد الواحد أنه قتل عبده عمدًا أو خطأ يمينًا واحدة لأنه مال، فإن كان القاتل عبدًا وأسلمه، سيده لم يقتل بشهادة واحد، قال ابن يونس‏:‏ ويضرب القاتل مائة ويحبس سنة، فإن نكل حلف سيد العبد يمينًا واحدة، فإن قال‏:‏ العبد دين عند فلان الحر‏:‏ قال أشهب‏:‏ يحلف خمسين يمينًا فيبرأ، ويضرب مائة ويحبس سنة، فإن نكل حلف سيد العبد يمينًا واحدة واستحق قيمته، ويضرب ويحبس؛ لأن هذا القول يوجب القسامة بين الأحرار، ولو ادعاه حر على العبد كانت فيه القسامة وإنما تزكت في هذا لأنه عبد، ولا قسامة في عبد، ورواه عن مالك، وقال ابن القاسم‏:‏ يحلف المدعي عليه يمينًا واحدة ولا قيمة عليه ولا ضرب ولا سجن، فإن نكل فالقيمة والضرب والسجن، وقال عبد الملك‏:‏ يحلف يمينًا واحدة، فإن نكل عزر، ولا ضرب مائة ولا سجن، بل تعزير من تعين قتله، وإن شهد شاهد أن عبدًا معينًا قتل عبده عمدًا؛ حلف يمينًا واحدة، وخير سيده بين غرم قيمة، أو يسلم عبده، فإن أسلم لم يقتل بشاهد، فإن كان مات بسراية جرح، حلف خمسين يمينًا مع الشاهد على الجرح، ويمينًا لمات منه، فإن نكل لم يحلف سيد الجارح إلا على نفي العلم، ويضرب المدعي عليه مائة، ويحبس سنة حرًا كان أو عبدًا، وإن قتل العبد حرًا؛ حلفوا خمسين يمينًا مع الشاهد واستحقوا دم صاحبهم، يقتلون العبد إن شاءوا وليس لهم أن يحلفوا يمينًا واحدة ويأخذوا العبد ليستحيوه؛ لأن دم الحر لا يستحق بذلك‏.‏

الطريق الثالث‏:‏ القسامة‏:‏ مصدر أقسم، معناه‏:‏ حلف حلفًا، والمراد هاهنا‏:‏ الأيمان المذكورة في دعوى القتل، وقيل‏:‏ هي الأيمان إذا كثرت على وجه المبالغة، وأهل اللغة يقولون‏:‏ إنها القوم الحالفون؛ سموا بالمصدر، نحو

رجل عدل ورضا، قال ابن يونس‏:‏ كانت في الجاهلية فأقرها الشرع، وأصلها‏:‏ الكتاب، والسنة، لا إجماع الأئمة، أما الكتاب‏:‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانٍا‏)‏ ووكل تعالى بيان هذا السلطان للنبي صلى الله عليه وسلم فبينه بالقسامة، وأما السنة‏:‏ فما في الصحيح‏:‏ ‏(‏أن عبد الله ابن إسماعيل ومحيصة خرجًا إلى خيبر من جهد أصابهم، فأتى محيصة فأخبر أن عبد الله بن إسماعيل قد قتل وطرح في فقير بئر، فأتى يهود فقال‏:‏ أنتم والله قتلتموه، قالوا‏:‏ والله ما قتلناه، فأقبل حتى قدم على قومه فذكر لهم ذلك، ثم أقبل هو وأخوه حويصة - وهو أكبر منه - وعبد الرحمن، فذهب محيصة ليتكلم - وهو الذي كان بخيبر- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ كبر، كبر، يريد‏:‏ السن، فتكلم حويصة، ثم تكلم محيصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إما أن تدوا صاحبكم، وأما أن تأذنوا بحرب من الله، فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فكتبوا إنا والله ما قتلناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن‏:‏ أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم‏؟‏ فقالوا‏:‏ لا، فقال‏:‏ فليحلف لكم يهود‏.‏ قالوا ليسوا بمسلمين، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده، فبعث إليهم بمائة ناقة حتى أدخلت إليهم الدار، قال سهل‏:‏ لقد ركضتنى ‏.‏

فوائد‏.‏ في المنتقى‏:‏ الفقير حفير يتخذ في السرب الذي يصنع للماء تحت الأرض يحمل فيه الماء من موضع إلى غيره، ويعمل عليه أفواه كأفواه الآبار بمناقش على الشرب، فتلك الآبار واحدها فقير، وقوله‏:‏ كبر، تقديم السن إما لأنه ساواهم في

غير السن ورجح عليهم به، أو لأن ما عده مظنون، وفضيلة السن معلومة، وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إما أن تدوا صاحبكم‏)‏ يحتمل إعطاء الدية لأنهم لم يدعوا قتله عمدًا، أو لم يعينون القاتل، فلا يلزم القصاص كالقتيل بين الصفين لا يقول‏:‏ دمي عند فلان، وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏تحلفون‏)‏ دليل على أنه لا يحلف أقل من اثنين، وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏وتستحقون دم صاحبكم‏)‏ يحتمل أنهم أتوا بلوث، أو يحمل على أن اسم ما يوجب ذلك‏.‏ وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏دم صاحبكم‏)‏ يحتمل ما يجب لكم في دم صاحبكم المقتول أو القاتل، وفي بعض الطرق‏:‏ قاتلكم فعين الاحتمال، وما بعث به عليه السلام إليهم إنما هو تفضيل وجبر لمصابهم من بيت المال لما لم يثبت المال لم يثبت لهم شيء، وقوله‏:‏ ‏(‏ركضتني منها ناقة حمراء‏)‏؛ ليبين قوة ضبطه للحديث بذكر أحواله‏.‏

وفي القسامة خمسة أركان‏:‏

الركن الأول‏:‏ مظنتها‏.‏ وفي الجواهر‏:‏ هي قتل الحر المسلم في محل اللوث إذا لم يثبت القتل ببينة أو إقرار من مدعي عليه، ولا قسامة في الأطراف، والعبيد، والكفار‏.‏ واللوث‏:‏ هو أمارة تغلب على الظن صدق مدعي القتل؛ كشهادة العدل الواحد على رؤية القتل، وفي شهادة من لا تعرف عدالته، أو العدل يرى المقتول يتشحط في دمه، والمتهم نحوه أو قربه عليه آثار القتل خلاف‏.‏ وفي الركن ستة فرع‏:‏

الأول‏:‏ في الكتاب‏:‏ إذا قال‏:‏ دمي عند فلان، قتلني عمدًا، أو قال‏:‏ خطأ، فلولاته أنه يقسموا ويقتلوا في العمد، ويأخذوا الدية في الخطأ من العاقلة، ولا

يقتسمون على خلاف ما قال المقتول، فإن لم يذكر‏:‏ عمدًا ولا خطأ، فما ادعاه الولاة من عمد أو خطأ يقتسمون عليه، فإن قال بعضهم‏:‏ عمدًا، وبعضهم خطأ، وحلفوا كلهم استحقوا دية الخطأ بينهم، وامتنع القتل للشبهة، فإن نكل مدعوا الخطأ فلا قسامة لمدعي العمد، ولا دية، وإن قال بعضهم‏:‏ عمدًا، وقال الآخرون‏:‏ لا علم لنا بمن قتله ولا يحلف؛ بطل دمه للشبهة، وإن قال بعضهم‏:‏ خطأ، وقال الآخرون‏:‏ لا علم لنا، ونكلوا، حلف مدعو الخطأ وأخذوا نصيبهم من الدية؛ لأنه مال أمكن توزيعه بخلاف العمد، وليس للآخرين الحلف بعد النكول؛ لأنهم أسقطوا حقهم، وإن نكل مدعو الدم، وردوا الأيمان على المدعي عليهم، لم يكن لهم الحلف بعد ذلك، وإن لم يكن للمقتول إلا وارث واحد وادعى الخطأ حلف خمسين يمينًا واستحق الدية كلها، أو العمد، لم يقتل المدعي عليه إلا بقسامة رجلين فصاعدًا، فإن حلف معه آخر من ولاة الدم، ولم يكن مثله في التعدد قبل، وإلا ردت الأيمان على المدعي، يحلف خمسين يمينًا، وإن نكل حبس حتى يحلف، وإن أقام شاهدًا على جرح عمد وحلف، اقتص، فإن نكل حلف المدعي عليه وبرئ، فإن نكل حبس حتى يحلف، والمتهم إن ردت عليه اليمين لا يبرأ إلا بخمسين يمينًا ويحبس حتى يحلفها‏.‏

فائدة‏:‏ في التنبيهات‏.‏ اللوث‏:‏ ما ليس بقاطع لأنه ملبس، والآث من الشجر ما التبس بغضه، قال ابن يونس في بقرة بني إسرائيل لما ذبحوها وضربوا بها القتيل فقال‏:‏ قتلني فلان، فاعتبر ذلك دليلاً على أن قول المقتول‏:‏ لوث، ولا يقال‏:‏ ذلك معجزة لنبي، فإن الإعجاز في إحيائه لا قوله بعد حياته، ولا يقدح في قول المقتول‏:‏ كون القاتل عدوه، وقول العدو غير مقبول على عدواته؛ لأن العداوة هنا تؤكد صدقه ؛ لأنها مظنة بخلاف سائر الدعاوي، ‏(‏وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الجاريتين على اليهودي مع عظيم العداوة بينهم تعظيمًا لحرمة الدماء‏)‏ وعن مالك‏:‏ اللوث شاهد، وإن لم يكن عدلاً، والمرأة دون العبد، ولم يختلف قوله وقول أصحابه في العبد والصبي والذمي أنه ليس بلوث، ولا شهادة النساء في قتل عمد، ولا يكون لطخًا، يريد المرأة الواحدة، ويقسم مع شهادة امرأتين عدلتين، ويقتل بذلك ويوجب القسامة‏:‏ أن يرى نحوه ميتًا أو خارجًا ملطخًا بالدم من منزل فيوجد فيه القتيل وليس معه غيره، أو يعدوا عليه في سوق عامر فيقتله فيشهدون بذلك وإن لم يعرفوا‏.‏ وعن مالك‏:‏ وشهادة النساء أو يرى المتهم حوله، وإن لم يروه حين الإصابة، قال يحيى بن سعيد‏:‏ شهادة المرأة أو العبيد والصبيان واليهود والنصارى والمجوس إذا حضروا القتل فجأة والضرب أو الجرح ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ لا يقوله مالك ولا أحد من أصحابه، وعن مالك‏:‏ اللفيف من السواد والنساء والصبيان وغير العدول لوث، ‏(‏قال‏:‏ ومن روى عنه‏:‏ العدل لوث‏)‏ فقد وهم؛ إنما كان يسأل‏:‏ هل العدل لوث‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم‏.‏ قال محمد‏:‏ ولا يقسم مع العدل في قتل الغيلة، ولا يقتل فيه إلا بشاهدين‏.‏ وعن يحيى بن سعيد‏:‏ يقسم معه‏.‏ قال محمد‏:‏ وإنما يقسم مع الواحد على معاينة القتل بعد يثبت معاينة جسد القتيل كما عرف موت عبد الله بن سهل، وكذلك لو شهدت أن امرأتان ورجل على قتله، ولم يعرف موته، فلا قسامة،

ويحبس المشهود عليه، ولا يعجل عسى أن يأتي بشاهد آخر، ويثبت موت القتيل برجلين؛ لأن الجسد لا يفوت، والقتل يفوت، وعن أشهب‏:‏ إن قال‏:‏ قتلني خطأ، وقال ولاته عمدًا، بطل ما وجب لهم من الدية، ولا يقتل، وإن قال‏:‏ عمدًا، وقالوا‏:‏ خطأ؛ بطل القود والدية؛ قال بعض أصحابنا، إن ادعى القاتل ‏(‏أن ولي الدم عفا عنه، فطلب باليمين فنكل، حلف القاتل‏)‏ يمينًا واحدًا لا خمسين؛ لأنها اليمين التي ردت عليه، ولأنه تنازع في عفو كسائر الحقوق، بخلاف نكول الورثة عن القسامة، ويؤدونها على المدعي عليه، فيحلف خمسين يمينًا المردودة عليه، وإن ردت الأيمان على الأولياء القاتل لنكول أو لفقد من يحلف، حلف من أولياء القاتل خمسون؛ خمسين يمينًا، فإن لم يكن له إلا وليان، حلفا خمسين دون القاتل ويبرأ، ولا يجبرون على الحلف، فإن لم يكن إلا ولي واحد، لم يحلف المدعي عليه ‏(‏حقه؛ لأنه إذا حلف‏)‏ معه لم يبرئه إلا خمسون يمينًا يحلفها وحده ‏(‏قاله ابن القاسم، وقال عبد الملك‏:‏ مع من أعانه من عصبته، يحلف أكثر منهم أو أقل، فإن لم يجد حلف وحده‏)‏ وإن وجبت القسامة بقول الميت أو بشاهد على القتل، وردت الأيمان على المدعي عليه حلف هو أو ولاته أنه ما قتله، فإن نكل حبس حتى يحلف، هذا قول مالك وأصحابه‏.‏ وإن كانت القسامة بضرب أو بجرح ثم مات بعد ذلك، قال ابن القاسم‏:‏ يحلف‏:‏ ما من ضربي ولا جرحي مات ‏(‏فإن نكل حبس حتى يحلف وضرب مائة وحبس سنة فإن‏.‏‏.‏‏.‏ أنه من ضربه مات‏)‏ لم يقتل، ولا بد أن يحلف‏.‏ قال أشهب‏:‏ لا يحلف في هذا، وهذا غموس، وإن أبيح للولي اليمين فيما لم يحضره؛

لأن نكول المدعي يبطل الدم، وترد الأيمان على المدعي عليه، فإن نكلوا لم يحكم عليهم بنكلوهم، وكيف يحلفون يمينًا لو أفردوا أو نكلوا لم يؤخذوا بذلك، قال اللخمي‏:‏ في اللوث في قتل العمد خمسة أقوال‏:‏ الشاهد العدل ماله، وعنه الذي ليس بالقوي العدالة، والمرأة دون العبد، وقال أبو مصعب‏:‏ جماعة نساء أو صبيان، أو جماعة ليسوا عدولاً، وعن أبي سعيد‏:‏ ما تقدم في ابن يونس، وعن ربيعة‏:‏ الصبي والذمي‏.‏

قال محمد في الحر المسلم يقتله العبد وينكل الولي‏:‏ إن كانت القسامة بقول الميت‏:‏ قتلني فلان، أو بشاهد عدل على القتل الموجب، حلف السيد يمينا واحدة على علمه، فإن نكل أسلمه أو يفتديه بدية المقتول، وقيل‏:‏ يحلف العبد خمسين يمينًا، وإن وجبت القسامة بالنية ومات من الجرح، لم ترد اليمين هاهنا على العبد ولا على السيد، وثبت جرحه فيفديه السيد بدية الجرح أو يسلمه، ويضرب العبد مائة ويحبس عامًا؛ لأن السيد والعبد يقولان‏:‏ لا علم عندنا، هل مات من الجرح أم لا، ويجوز موته منه، إلا أنه لا يستحق دية في عمد ولا خطأ إلا بقسامة ولا وجه ليمين السيد في المسألة الأولى؛ لأنه لا علم عنده، واختلف إذا قال‏:‏ قتلني ولم يقل‏:‏ عمدًا ولا خطأ، فقيل‏:‏ ما تقدم في الكتاب، وقال محمد‏:‏ لا يقسمون إلا على الخطأ، وعنه‏:‏ يكشف عن حال المقتول وجراحاته، وحالة القاتل من عداوة وغيرها، فيقسمون حينئذ على ما يظهر من العمد وغيره، ويقتلون، وإن لم يظهر عمد ولا خطأ فيتوقف؛ لأنه السنة إنما جاءت في قبول قول المقتول‏.‏ قال محمد‏:‏ إن قتل بعضهم عمدًا وبعضهم خطأ حلف جميعهم، فإن أقسم على الخطأ، نصيبه من الدية على عاقلة القاتل، ولمن أقسم على العمد نصيبه من مال القاتل‏.‏ قال‏:‏ وهو حسن توفية بالأسباب، ويكون نصيب مدعي العمد من الإبل من الأربع خمسًا وعشرين ‏(‏بنت مخاض، وخمسًا وعشرين بنت لبون وخمسًا وعشرين‏)‏ من كل صنف، وعن مالك‏:‏ إذا رجع مدعي العمد إلى

دية الخطأ له ذلك؛ لأنه أقل أحواله، ومنعه أشهب، لأن أصل العمد القود، وعن ابن القاسم‏:‏ إن قال بعضهم‏:‏ عمدًا، وبعضهم‏:‏ لا علم لنا، أو قال جميعهم‏:‏ عمدا ونكل بعضهم، فلمدعي العمد أن يحلفوا ويستحقون نصيبهم من الدية، ونكولهم على الحلف قبل وجوب الدم كعفوهم عنه عبد الوجوب، بخلاف القائلين‏:‏ لا علم لنا، ومتى سقط الدم بنكول أو اختلاف حلف المدعي عليهم، وكل هذا إذا استوت منزلتهم‏:‏ بنين أو إخوة، أو أعمام، فإن اختلفت كابنة وعصبة‏.‏ فقال العصبة‏:‏ عمدًا، وقالت الابنة‏:‏ خطأ، فلا قسامة، ولا قود، ولا دية؛ لأنه إذا كان عمدًا فإنما ذلك للعصبة، ولم يثبت لهم ذلك، أو خطأ، فإنما فيه الدية، ولم يثبت الخطأ، ويقسم المدعي عليه‏:‏ ما قتله عمدًا وينعصم دمه‏.‏ قال محمد‏:‏ وإن ادعى العصبة كلهم العمد، لم ينظر إلى ورثته من النساء؛ لأنه لا عفو للنساء مع الرجال، أو ادعت العصبة كلها الخطأ والنساء العمد؛ أقسم العصبة خمسين يمينًا وأخذوا نصيبهم من الدية، وليس من اللوث وجوده في محلة قوم، أو على باب إنسان؛ لأن القاتل يبعد من قتله، وقوله‏:‏ فلا قتلني؛ لوث إن قال‏:‏ عمدًا، أو به جراح وادعى ذلك على من يشبه، واختلف إذا قال‏:‏ خطأ أو عمدًا أو لا جراح به، أو به جراح فادعى على من لا يشبه من رجل صالح، أو عدوه، أو شهد واحد على ‏(‏قول البينة، فإن أنفذت مقاتله، فعن مالك‏:‏ لا يقسم على قوله في الخطأ؛ لأنه يتهم في غير ولده، وعن ابن القاسم‏:‏ إن ادعاه على رجل صال أقسم معه وقتلوه، وعن ابن عبد الحكم‏:‏ يبطل قوله، بخلاف عدوه، فإنه يتوقع قتل عدوه له، وقيل‏:‏ يتهم على عدوه وقال عبد الملك‏:‏ إن شهد واحد على قوله كفى، ويقسم معه؛ لأنه لوث يرجح الصدق، وقيل‏:‏ لا بد من اثنين، ورجحه ابن عبد الحكم،

والموضع الذي يقسم بواحد على المعاينة، إذا أنفذت مقاتله يقسم ما شهد شاهدي إلا بالحق في الخمسين يمينًا، أو شاهدين على معاينة ولم تنفذ مقاتله، فيقسم‏:‏ لمات من ذلك، وإن كان الشاهد على قول الميت، أو أنه أصابه ولم ينفذ مقاتله، فمن صار إلى أنه يحلف؛ فيحلف أنه شهد بالحق، وأنه قتله، لأنه لو شهد شاهدان على قول الميت، لم يستحق بذلك القتل إلا بعد القسامة أنه قتله، فهو يحلف أنه شهد بحق، ولا يحلف ‏(‏أنه قتله، وكذلك شهادته على معاينة الضرب يحلف مع شاهديه بضربه ليتوصل إلى اليمين أنه مات من ذلك الضرب، ولا يحلف‏)‏ على من أجاز ذلك، أنه يجمع ذلك في قسامة واحدة في خمسين يمينًا‏.‏

نظائر‏.‏ قال ابن زرب‏:‏ تجب القسامة بأربعة‏:‏ إذا ثبت قول المقتول الحر المسلم البالغ بشاهدي عدل‏:‏ أن فلانًا ضرب المقتول ‏(‏حتى قتله عمدًا أو خطأ‏)‏ ضربة فأجافه بها، أو غير ذلك من الجراح عمدًا أو خطًا، فعاش الرجل بعد ذلك، وأكل وشرب، ولم يسأل أين دمه حتى مات، وإذا أعترف رجل بقتل رجل خطأ، والمعترف مأمون لا يتهم، فيقسم ولاة المقتول، فإن أبوا فلا شيء لهم‏.‏ قال الطرطوشي‏:‏ لا يجب بمجرد الدعوى يمين ولا شيء، وكذلك النكاح والطلاق، وقال ‏(‏ح‏)‏ و‏(‏ش‏)‏‏:‏ تجب اليمين على المدعي عليه في ذلك كله، وهل يحلف خمسين في دعوى القتل أو يمينًا واحدة‏؟‏ عند ‏(‏ش‏)‏ قولان‏:‏ وخالفنا الأئمة في شهادة عدلين على قوله‏:‏ قتلني فلان، إنه لوث، قالوا ولا يجب فيه شيء، وهو اختيار القاضي أبي الوليد‏.‏ لنا‏:‏ آية البقرة، وفي البخاري ‏(‏أن يهوديًا قتل جارية بحجر على أوضاح له، فجئ بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها رمق، فقال‏:‏ أقتلك فلان‏؟‏ فأشارت برأسها‏:‏ أن لا، ثم قال الثانية‏:‏ فأشارت برأسها‏:‏ أن نعم فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرضخت رأسه بين

حجرين‏)‏ ولا حجة فيه؛ لأن في بعض طرقه‏:‏ لم يزل به حتى أقر، ولأن الغالب من المؤمن عند حضور الأجل‏:‏ البعد عن الذنوب والأذية، والخوف والندم على التفريط، فإقدامه على السبب لقتل النفس التي حرم الله تعالى خلاف الظاهر، فيكون ذلك لوثا كسائر صور اللوث، مثل كونه عنده ومعه آلة القتل، وغير ذلك احتجوا، بوقه عليه السلام‏:‏ ‏(‏لو أعطي الناس بدعاويهم؛ لادعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر‏)‏، ولأن شيم النفوس الظلم فيتهم على أذية من يعاديه حتى لا يعيش بعده، وآية البقرة لا حجة فيها؛ لأن القاتل يشاهد الآخرة وعلم مقدار الجنايات وعقوباتها، فقوله يحصل العلم بخلاف صورة النزاع، ولذلك قال العلماء‏:‏ إنه لا يمكن أن يموت أحد كافرًا لما يشاهد عند الاحتضار مع أن مالكًا رحمه الله نقض أصله هذا، وأبطل تصرفات المشرف على الموت في ضرر التهمة كما قلناه في الطلاق، والمرض، والنكاح فيه، والإقرار للصديق‏.‏

والجواب عن الأول‏:‏ أنا لا نعطي الولي بدعواه، بل بأيمانهم، وقول الميت مرجح لجهتهم لوجوده في قرية أو محلة، وبينهم عداوة ظاهرة، ولا يسكنها غيرهم، أو تفرق جماعة في دار عن قتيل، أو ازدحم الناس في الطريق، أو دخول البيت ونحوه، فوجد هناك قتيل أو بين طائفتين مسلمتين يقتلون، أو شهد عبيد ونساء، فهذه كلها لوث عندكم، يقسمون معها ويستحقون‏.‏

وعن الثاني‏:‏ أن الظاهر عند مفارقة الدنيا عدم العدوان، والصدق وغيره بإذن، والمطلوب هو الظن‏.‏

وعن الثالث‏:‏ لا نسلم حصول العلم، بل قد أخبر الله تعالى عن قوم في الآخرة بأنهم يكذبون، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏(‏يوم يبعثهم الله جميعًا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنه هم الكاذبون‏)‏ وعن آخرين‏:‏ ‏(‏ما جاءنا من بشير ولا نذير‏)‏ ومع قيام الاحتمال لم يبق إلا الظن‏.‏

وعن الرابع‏:‏ لم يورث المطلقة للتهمة؛ لأنها لو سألته الطلاق وأعطته مالا ورثت، بل للسنة، وفسخ نكاح المريض لا للتهمة، بل لأنه ممنوع من إخراج المال لغير حاجة إلا من الثلث، ولا يمكن إيقاف المهر حتى يخرج من الثلث، ولأن هذه الأمور التهمة فيها على مال، والجناية على النفس أعظم، فيكون الصدق أبين، ولذلك لو قال‏:‏ قتلني عبد فلان، لم يقتله ولأنه مال، وإنما قتلناه في قوله‏:‏ قتلني خطأ وإن كان مالاً؛ لأن المال في الرتبة الثانية، ولم يذكر القتل، كما تمتنع شهادة النساء في النسب، ونقبلها في الولادة‏.‏

الثاني، في الكتاب‏:‏ لا يحبس المشهود عليه في الخطأ؛ لأن الدية على العاقلة، ويحبس في العمد حتى يزكى الشهود فتجب القسامة، وإلا فلا القسامة مع غير عدل، وإن وجد قتيل في قرية قوم أو دارهم لا يعلم من قتله، فلا شيء فيه، لا دية في بيت المال ولا غيرها، ويقسم بقوله‏:‏ دمي عند فلان، وإن كان مسخوطًا والولي مسخوط، والمرأة يقسم بقولها، وإن قال صبي‏:‏ قتلني فلان الصبي، وأقر القاتل، فلا يقسم على قوله لعدم الوثوق به، ولا يقبل الإقرار لحق الله تعالى في الدم والصبي بخلاف المسخوط؛ لأن الصبي لا يحلف مع شاهده في المال، وإن

قال النصراني‏:‏ دمي عند فلان، لا يقسم على قوله؛ لأن النصراني لا يقسم، وإن قال البالغ‏:‏ قتلني الصبي فلان، أقسم على قوله، والدية على عاقلة الصبي، وإن رمى ذميًا عبدًا اقتسموا، ولهم القتل في العمد، وإن قال ابن الملاعنة‏:‏ دمي عند فلان، وهي معتقة، أقسم مواليها، أو من العرب‏:‏ أقسم في الخطأ أمه وأخوته لأمه، وأخذوا نصيبهم من الدية، وفي العمد لا قسامة كمن لا عصبة له‏.‏

الثالث‏.‏ قال‏:‏ لا قسامة مع شهادة عدلين، وإن شهد شاهد أنه قتله وقال‏:‏ دمي عند فلان، لم يكتف بذلك، ولا بد من القسامة، وإن شهد أن فلانًا ضربه حتى قتله ‏(‏قتل بالقسامة أو إنه ضرب وعاش وتكلم، أو أكل ولم يسأل حتى مات فالقسامة‏)‏‏.‏

الرابع‏.‏ قال‏:‏ إن صالح من موضحة خطأ على مال فمات منها، أقسم ولاته لمات منها واستحقوا الدية على العاقلة، ورجع الجاني فيما دفع وكان في العقل كرجل من قومه؛ لانكشاف العاقبة عن أنه قتل نفس، أو عن قطع يده عمدًا فعفا، ثم مات منها، فلهم القصاص في النفس بالقسامة إن كان عفوه عن اليد لا عن النفس‏.‏

الخامس‏:‏ إن شهد أحدهما أنه قتله بسيف، والآخر أنه قتله بحجر‏:‏ بطلت الشهادة، للاختلاف ولا قسامة بذلك‏.‏

السادس‏.‏ في المقدمات‏:‏ إن جرح جرحا له عقل عمدًا أو خطأ فمات فثلاثة أحوال‏:‏ أحدهما‏:‏ أن لا يعلم الجرح إلا من الميت فيقول‏:‏ دمي عند فلان جرحني هذا الجرح ومنه أموت، بطل في الجرح القصاص؛ لأنه لا يستحق بالقسامة والدية، لامتناع القسامة في الجرح، بل يقسمون ويقتلون في العمد، أو يأخذون الدية في الخطأ‏.‏ قال محمد‏:‏ وعاب ما وقع في سماع يحيى أنهم إن شاءوا أقسموا واستحق الدم، أو يقتصوا من الجرح أو يأخذوا ديته إن كان خطأ‏.‏ وثانيها‏:‏ إن

يثبت بشاهدين فيخيروا في أن يقسموا أو يقتلوا في العمد، أو الدية في الخطأ على العاقلة، أو لا يقسموا ويقتصوا من الجرح إن كان عمدًا، وديته في الخطأ، وعن ابن القاسم‏:‏ إن أبوا القسامة امتنع القصاص في الجرح في العمد، والدية في الخطأ‏.‏ وثالثها‏:‏ إن شهد على الجرح شاهد فينبغي أن يفترق العمد من الخطأ، فيخيرون في الخطأ في أن يقسموا على الدم ويستحقون ديته في مال الجاني أو العاقلة إن بلغ الثلث، وإن نكلوا في العمد امتنع القصاص في الجرح؛ لتعذر القصاص فيه بالقسامة‏.‏

السابع‏.‏ في الجواهر‏:‏ إذا انفصلت قبيلتان عن قتيل لا يدري من قتله، فعقله على الفرقة التي نازعوه ونازعوا أصحابه فتضمن كل فرقة من أصيب من الفرقة الأخرى فإن كان من غيرهما فعقله عليهما، ولا قسامة في ذلك ولا قود‏.‏ قال أشهب‏:‏ هذا إذا لم يثبت دمه عند معين، قال ابن القاسم‏:‏ لا قسامة بقول الأولياء، أما إن قال‏:‏ فلان قتلني، أو أقام شاهدًا عدلاً أن فلانًا قتله، ففيه‏:‏ القسامة أو شاهدان أن فلانًا قتله بين الصفين، يقتل به، وعن ابن القاسم‏:‏ لا قسامة فيمن قتل بين الصفين، وإن شهد على قتل شاهد، أو على إفرازه، ورجع عن هذا إلى القتل بالقسامة لمن أدعي عليه القتل‏.‏

الثامن‏.‏ قال‏:‏ حيث شهد عدل على رؤية القتل قال‏:‏ لا يقسم حتى تثبت معاينة القتيل ويشهد بموته، كقصة عبد الله بن سهل؛ لأن اللوث يفوت، والجسد لا يفوت، قال أصبغ‏:‏ لا يعجل الإمام بالقسامة حتى يكشف، فإذا بلغ أقصى الانتظار قضي بالقسامة‏.‏

التاسع‏.‏ قال‏:‏ مسقطات اللوث أربعة‏.‏ الأول‏:‏ تعذر إظهاره عند القاضي، فإن ظهر عمده في جمع ثان شهدت البينة أنه قتل ودخل في هؤلاء ولم يعرفوه منهم، فللمدعي استحلاف كل منهم خمسين يمينًا ويغرمون الدية بلا قسامة،

ومن نكل منهم فالعقل عليه، قال سحنون‏:‏ لا شيء عليهم، وتبطل الشهادة؛ لعدم تعيين القاتل‏.‏ الثاني‏:‏ إذا ظهر في أصل القاتل دون وصفه كما إذا قال‏:‏ دمي عند فلان، ولم يقل‏:‏ عمدًا ولا خطأ، فالأولياء إما أن يتفقوا على الخطأ أو العمد، أو يختلفوا وقد تقدم بيانه‏.‏ الثالث‏:‏ دعوى الورثة خلاف قول الميت من عمد أو خطأ، يسقط حقهم من الدم والدية، ولا يقبل رجوعهم لقوله، قاله أشهب‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ لا يقسموا إلا على قوله‏.‏ الرابع‏:‏ دعوى الجاني البراءة ويقيم البينة، قال ابن يونس‏:‏ إن قال‏:‏ ضربني فلان وفلان، ثم خوف فقال‏:‏ فلان وفلان غير الأولين فلم يبرئ الأولين، لم يقسم على الأولين والآخرين؛ لأنه أبرأ الأولين، وقوله الأول يكذبه في الآخرين‏.‏

الركن الأول في المقسم، وفي الجواهر‏:‏ هو في العمد من له القصاص من الأولياء الرجال المكلفين، وفي الخطأ جميع المكلفين من الورثة رجالاً أو نساء يحلفون على قدر مواريثهم، ومن لا وارث له فلا قسامة له؛ لتعذر قسم بيت المال، ولا يقسم إلا ولي نسب أو ولاج، ولا يقسم من القبيلة إلا من التقى معه إلى نسب ثابت، ولا يقسم المولى الأسفل، بل ترد الأيمان على المدعي عليهم‏.‏ وفي الكتاب‏:‏ لا يقسم في العمد أقل من رجلين كالشهادة، وإن كان للمقتول أولاد صغار، والقتل بالقسامة، فللولي تعجيل القسامة ولا ينتظر كبرهم لئلا يفوت الدم بفوات محله، وإن عفوا امتنع إلا على الدية لا أقل منها، وإن كانوا أولاده صغارًا وكبارًا، والكبار اثنان فصاعدًا، فلهم القسامة والقتل، ولا ينتظر بلوغ الصغار، فإن عفا بعضهم فليقسم مع الصغار حظهم من الدية، وإن لم يكن

إلا ولد كبير وآخر صغير، ووجد الكبير من ولاة الدم من يحلف معه، وإن لم يكن ممن له العفو، حلفا خمسين، وللكبير أن يقتل لكمال النسب، وإن لم يجد ‏(‏حلف خمسًا وعشرين يمينًا، وانتظر الصغير إذا بلغ حلف خمسًا وعشرين يمينًا واستحق الدم‏)‏ ولا يقسم النساء في دم العمد، لأنهن لسن أهلاً للقيام بالدماء، ويقسمن في الخطأ؛ لأنه مال، وإن حلف رجال عدد في العمد، فأكذب نفسه واحد منهم، امتنع القتل إن كان ممن لو أتى باليمين لم يقتل المدعي عليه، في التنبيهات عن ابن القاسم‏:‏ تسقط الدية على القاتل بتكذيب أحدهم نفسه، بخلاف لو عفا أحدهم عنه، ولو كان قبل القسامة استوى عند ابن لقاسم العفو والنكول ويسقط الدم والدية، وكذلك يقول عبد الملك في المسألتين قبل وبعد في العفو والنكول والتكذيب‏.‏ وقال أشهب في جميع ذلك‏:‏ للباقين حظهم من الدية، ويقسمون إن لم يكونوا اقتسموا لأن الأصل بقا حقهم، وفرق ابن نافع‏:‏ بين نكوله على وجه الورع، فللباقين القسامة والقود لبقاء قوة النسبة، أو على طريق العفو، فللباقين القسامة والدية‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم القسامة على الجاريتين، وكن اثنتين فأكثر‏.‏ ولا يقتل أحد إلا بشاهدين، وقد جعل الله تعالى لكل شهادة في الزنا يمينًا في اللعان، والنساء لما لم يشهدن في العمد، لا يحلفن فيه، قال مالك‏:‏ إن كان في الولاة خمسون، حلف كل رجل يمينًا أو أقل، رد عليهم الأيمان أو أكثر، واستوى في التعدد‏.‏ قال أشهب‏:‏ لا يحلف إلا خمسون، وعدم حلف الزائد لا يعد نكولاً، ولا يقتصر على اثنين منهم يحلفون خمسين يمينًا، وإن أبوا إلا ذلك لم يجدهم وهو كالنكول، لعدم كمال

الخمسين من الجميع، وقال ابن القاسم‏:‏ يجدي اثنان، قال محمد‏:‏ وذلك عندي إذا تطاوعوا ولم يتركوا نكولا، كما يحلف الخمسون عمن بقي، والكبير عن الصغير إن كان له إخوة وجد، قال ابن القاسم‏:‏ يقسم الجد مع الإخوة على قدر حقه من الميراث معهم، ويقسم الإخوة على حقوقهم في دم العمد والخطأ إن تشاحوا في قسامة العمد‏.‏ وقال أشهب‏:‏ يحلف على قدر حقه في الخطأ، وأما العمد‏:‏ فأيمان العصبة على قدر العدد‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ إن كان له ابن وغيره وهو من العرب، أقسم مع الابن من ينتمي معه إلى جد توارثه، وأما من هو في العشرة بغير نسب معروف فلا‏.‏ للمقتول ولد أم لا، قال عبد الملك‏:‏ يستعين الولد من عصبته بمن شاء إلى خمسين رجلا، وإن حلف أحد الولدين ثم أصاب الآخر من يعينه فلذلك له، وإن حلف الذي أعين مع من أعانه لم يكن على الثاني الأشطر ما بقي بعد طرح أيمان المعينين، ويحسب الحالف ما حلف ويزاد عليه إلى مبلغ ذلك، ولا يحلف أحد الولدين أكثر من خمسة وعشرين كما لا يحلف واحد في القسامة، والأولاد الصغار لا ينتظر بلوغهم، وينتظر لهم وليهم في القتل وأخذ الدية، قال أشهب‏:‏ فإن لم يكن لهم وصي جعل السلطان لهم وليا، وله أن يأخذ في العمد أقل من الدية؛ لأنه كبيع‏.‏ قال سحنون‏:‏ أشهب يقول‏:‏ إن طلب من القاتل الدية لزمته فكيف يجوز للولي القصاص، والصبي لو بلغ كان له أن يلزمه إياها، ولا يقتل الولي الحاضر حتى يقدم الغائب بخلاف الكبير مع الصغير؛ لأنه يمكن أن يكتب إليه، ويحبس القاتل حتى يقدم إلا

البعيد الغيبة فللحاضر القتل كالأسير بأرض الحرب ونحوه، بخلاف من إفريقية إلى العراق، وكذلك الصبي إن كان راهق انتظر، قاله سحنون‏.‏ وإن كان أحدهما مجنونا مطبقا، وللآخر القتل، وينتظر المغمى عليه والمبرسم لقربه‏.‏

وفي المقدمات‏:‏ إن وُزعت الأيمان فحصل فيها كسر، نحو كونهم عشرين، يحلف كل واحد يمينين يمينين تبقى عشرة، فيمتنع الدم حتى يأتوا بعشرة منهم يحلفون، فإن أبى جيمعهم عنها بطل الدم، ولا يستعين إلا بمن يلقاه إلى أب معروف، فإن أراد أحدهم تحمل عنه أكثر مما يجب عليه لم يجز، وإن أراد هو جاز له ذلك ما بينه وبين خمسة وعشرين يمينا، وإن كان اثنين فلهم الاستعانة وتقسم الأيمان على عددهم أجمعين، ويجوز رضا أحدهما بأكثر مما يجب عليه بخلاف المستعان به كما تقدم، وإن حلف الوليان ما يجب عليهما فللمستعان بهم أن يحلف بعضهم أكثر من بعض، وإن حلف أحدهما نصفها فوجد الآخر من يعينه فلا يختص المستعان به، بل تقسم بينهما إلا أن يكون الأول حلف آيسا ممن يعينه فتحسب الأيمان، والجد عند ابن القاسم أخ في العفو، ويحلف ثلث الأيمان في العمد والخطأ‏.‏ قال‏:‏ وهو صواب في الخطأ، وينبغي في العمد قسم الأيمان على عددهم؛ لأنه أخ‏.‏ وقال أشهب‏:‏ لا حق للجد مع الإخوة في القيام به ولا العفو، فيقسمون دونه، ولهم الاستعانة به‏.‏

الركن الثالث‏.‏ المقسم فيه، إنما يقسم في الدماء في الأحرار، لأنه مورد السنة والقسامة، على خلاف قاعدة الدعاوي في القسم وعدد الأيمان، وفيها تعبد بعدد فيقتصر بها على محلها، وفي الكتاب‏:‏ لا قسامة في العبيد عمدا ولا خطأ؛ لأنهم مال، وإن قتل عبد حرا فلولاته القسامة خمسين يمينا ويستحقون دم صاحبهم؛ لأنه دم حر، فيقتلون العبد إن شاءوا، وإن قالوا‏:‏ يحلف يمينا واحدة ويأخذ العبد يستحييه، امتنع؛ لأن دم الحر لا يستحق إلا بالقسامة أو بينة،

وليس فيمن قتل بين الصفين قسامة لتعينه منهما‏.‏ وإن ضربت امرأة فألقت جنينا ميتا وقالت‏:‏ دمي عند فلان، ففيها القسامة، ولا بد في الجنين من بينة؛ لأنه كجرح فيها أو شاهد عدل يحلف ولاته معه يمينا واحدة ويستحقون ديته، وإن قالت‏:‏ دمي عند فلان فخرج جنينها حيا واستهل ومات وعاشت الأم لم يقسم فيه؛ لأنه جرح، وإن قالت - وهي حية - قتل ابني لم يقبل قولها، ولا يقسم فيه وإن قالت‏:‏ دمي عند أبي يقسم على قوله، والدية في الخطأ على عاقلته، وفي العمد في مال الأب‏.‏ وفي التنيهات‏:‏ قوله‏:‏ لا قسامة فيمن قتل بين الصفين‏.‏ معناه‏:‏ إذا لم يدم على أحد، ولا شهد على من قتله، ولا أي الصفين قتله، وفيه الدية على الفئة المنازعة له‏.‏ وفي الجلاب‏:‏ فيه القسامة مطلقا لاحتمال موته بسبب يخصه‏.‏ واختلف قول ابن القاسم إذا رمي أو شهد له شاهد بقتل معين له، أو على أحد الصفين فحملا يقتله هل فيه قسامة أم لا‏؟‏ وما يثبت ببينة ففيه القصاص هذا بصفة العصبية والبغي المستوي في ذلك، فإن كان أحدهما باغ والآخر مظلوم ومتأول، والقتيل منهم، طلب الآخرون بعقله بقسامة أو بغير قسامة على القولين المتقدمين إن لم يثبت قاتله أو قتل الصف له بعدلين، أو من صف الباغين الراجعين فلا قصاص ولا دية، وإن تعين قاتله، وكذلك إن كان القاتلون متأولين أو كلا الصفين متأول؛ لأنه عمل السلف في قتال البغاة‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ يضرب قاتل العبد مائة ويحبس سنة، وإن نكل حلف سيد العبد يمينا ‏(‏واحدة، فإن قال العبد‏:‏ دمي عند فلان‏:‏ قال أشهب‏:‏ يحلف خمسين يمينا

ويضرب ويحبس سنة ويبرأ؛ لأن الحر ادعى القتل عليه، فإن نكل حلف سيد العبد يمينا‏)‏ واستحق قيمته مع الضرب والحبس؛ لأنه لو ادعاه حر على عبد كانت فيه القسامة، وإنما تركت لأنه عبد، ورواه عن مالك‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ يحلف المدعى عليه يمينا واحدة ولا قيمة ولا ضرب ولا سجن، فإن نكل غرم القيمة وضرب مائة وحبس سنة، وعن ابن القاسم‏:‏ لا قسامة في قتيل الصفين وإن شهد شاهد على قتله أو إقراره، ويرجع إلى القتل بالقسامة، وإن كان القتيل أو الجريح من غير الفريقين، فعقله عليهما ولا قسامة ولا قود إلا أن يثبت عند أحد يعينه ‏(‏وقول مالك‏)‏‏:‏ لا قسامة في هذا، يريد بدعوى الأولياء أن فلان قتله ‏(‏أما بقول الميت أو قيام شاهد أن فلان قتله‏)‏ ففيه القسامة، وإن شهد شاهد أن فلانا جرحه ثم مات بعد أيام، ففيه القسامة، قال مالك في جماعة ضربوا رجلا ثم افترقوا وبه موضحة لا يدري أيهم شجه فالعقل على جميعهم، وإن ثبت أن أحدهم جرحه اقتص منه بعد حلفه؛ لأنه يتهم أن ينكر الفاعل ليلزم العقل، وقوله في الجنين‏:‏ لا قسامة، يريد‏:‏ ويحلف من يرث العدة كل واحد منهم يمينا أنه قتله، ويستحقون العدة في مال الضارب، وإذا خرج حيا وقالت‏:‏ دمي عند فلان‏:‏ لا قسامة فيه؛ لأنه المضروب غيره، ولأنها تجر سبها لنفسها أو إلى زوجها إن كان أبوه، أو إخوته إن كانوا أولادها، ولأنها لو قالت‏:‏ قتلني وقتل فلان معي، لم يكن في فلان قسامة عند ابن القاسم‏.‏ وقال أشهب‏:‏ يقسم ولادته بشهادتها ما لم تشهد من يرثها لأنه يرى شهادة المرأة لوثا بخلاف ابن القاسم‏.‏ ولو قال‏:‏ أضجعني أبي فذبحني أو بقر بطني فيقسم مع قوله ويقتل الأب أو يعفون عنه، قاله ابن القاسم، وقال أشهب‏:‏ لا يقتل والد بالقسامة بل المال لأنه يقتل عشرة بواحد بالبينة دون القسامة‏.‏

قال اللخمي‏:‏ القتيل من الصفين أربعة‏:‏ قصاص، وهدر، ودية، ومختلف فيه، هل القصاص أو الدية‏؟‏ ففي المتأولين هدر، وفي الباغين قصاص إن عرف القاتل، وفيمن يكون بين القبائل دم الراجفة هدر، والدافعة عن نفسها قصاص، وفي الباغين إذا لم يثبت القتل إلا بشاهد على القتل، أو على قول القتيل‏:‏ قتلني فلان، أو وجدوه قتيلا هل القصاص بالقسامة أو الدية بالقسامة أو الدية على المنازعة من غير قسامة‏؟‏ خلاف‏.‏

فرع‏:‏

في الكتاب‏:‏ إن مات تحت الضرب أو بقي مغمورا لم يأكل، ولم يتكلم، ولم يفق حتى مات لم يقسم فيه؛ لعدم التعين، فإن عاش حياة بينة ثم مات ففيه القسامة، إذ لعله مات بغير الضرب، وكذلك إن مكث يوما فتكلم، ولم يأكل ولم يشرب، أو قطع فخذه فعاش يومه وأكل وشرب ومات آخر النهار، أقسم عليه؛ فإن شق حشوته، وأكل وأقام ثلاثة أيام، قتل بغير قسامة لتعين إنفاذ المقتل‏.‏ قال ابن يونس من سماع ابن القاسم‏:‏ بينه وبين رجل قتال، فأتي وبه جرح، فقال‏:‏ فلان وفلان فعلا بي هذا، وقد أترث فيها في مواضع‏:‏ يسجنان حتى يكشف أمرهما، والصلح في هذا أحب إلي، قال ابن القاسم‏:‏ إن جرح ثم ضربته دابة فمات لا يردي عن أيهما‏:‏ كان نصف الدية على عاقلة الجارح قبل القسامة، وكيف يقسم في نصف الدية، وعنه‏:‏ يقسمون‏:‏ لمات من جرح الجارح كمرض المجروح‏.‏ قال محمد‏:‏ إن طرحه على موضع بعد جرح الأول أقسموا على أيهما شاءوا، على الجارح أو الطارح، وقتلوه وضرب الآخر مائة وحبس سنة‏.‏

الركن الرابع‏.‏ في كيفية القسامة، وفي الكتاب‏:‏ يقسم ولاة الدم في الخطأ

على قدر مواريثهم، والبنت وحدها تحلف خمسين يمينا وتأخذ نصف الدية، أو مع عصبته فخمسة وعشرين، والعمة مثلها، فإن نكلوا لم تأخذ البنت إلا خمسين يمينا، أو بنت وابن غائب لم تأخذ البنت حتى تحلف خمسين، فإذا قدم حلف ثلثي الأيمان، وأخذ ثلثي الدية، فإن انكسرت يمين، جبرت على من عليه أكثرها، وإن لزم واحد نصفها، وآخر سدسها حلف صاحب النصف، وجد وعشرة إخوة؛ يحلف الجد ثلثها والإخوة ثلثيها‏.‏ وفي النكت‏:‏ إن استوت الحصص في اليمين اقترعوا بيمين يجبر عليه، قاله بعض مشايخنا‏.‏ وفي الجلاب‏:‏ إن استوت جبرت عليهم كلهم، ويحتمل أن تجبر على واحد منهم، ويحلف الجد مع عشرة إخوة في العمد كواحد منهم، بخلاف الخطأ؛ لأن ميراثه الثلث، فيحلف الثلث، وعن ابن القاسم‏:‏ خلافه، والأول أقيس‏.‏

فرع‏:‏

في الكتاب‏:‏ يحلفون بالله الذي لا إله إلا هو أن فلانا قتله، أو مات من ضربه إن كان عاش، ولا يزاد‏:‏ الرحمن الرحيم؛ لأن السنة في الأيمان، ويحلف على البت، وإن كان أحدهم أعمى، أو غائبا حين القتل‏.‏ وفي التنبيهات‏:‏ في بعض روايات المدونة يزيدون الرحمن الرحيم، وهو مذهب المغيرة وغيره في القسامة وشبهها‏.‏

فرع‏:‏

في الجواهر‏:‏ نكول المستعان بهم غير معتبر؛ لعدم إحالته كذب القضية، بخلاف نكول أحد الأولياء يسقط القود‏.‏ قال القاضي أبو محمد في الولد والإخوة رواية واحدة، وفي غيرهم من العصبة روايتان‏:‏ السقوط، ويحلف الباقون ويستحقون الدم؛ لتعدد الحقوق، وحيث قلنا بالسقوط حلف الباقي ويستحق نصيبه من الدية؛ لأنها تتوزع، بخلاف الدم، وروي‏:‏ ترد الأيمان على المدعى

عليهم؛ لأن الدية فرع ما لا يتوزع فلا يتوزع، فإن نكل المدعى عليه لزمته الدية كاملة في ماله؛ لأن النكول ظاهره‏:‏ صدق الدعوى، واتفقوا على أن هذا يحبس حتى يحلف، قاله محمد‏.‏ وروي‏:‏ إن طال حبسه خلي‏.‏

فرع‏:‏

في المقدمات‏:‏ إن كان الأولياء رجلين وأرادا أن يستعينا بمن دونهم في الرتبة جاز، وتقسم الأيمان بينهم على عددهم، وإن رضي المعين أن يحلف أكثر مما يجب عليه، امتنع، أو رضي الولي أن يحلف أكثر مما يلزمه، جاز في خمسة وعشرين يمينا؛ لأنها بإحالة عليه، وإنما جازت الاستعانة بمن يرجع إلى النسب؛ لقوله عليه السلام للحارثيين‏:‏ ‏(‏أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم‏؟‏‏)‏ ولم يكن الجميع إخوة بل مختلفين في الرتب، فعبد الله بن سهل أخوه، وحويصة ومحيصة ابنا عمه، وفي حديث الحارثيين قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏أتحلفون وتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم‏؟‏‏)‏ وظاهره أنه لا يزاد على هذا العدد مع أن الأنصار كانوا أكثر من ذلك‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ إن نكل ولاة الدم عن اليمين، وكانت القسامة وجبت بقول المقتول أو بشاهد على القتل، فثلاثة أقوال‏:‏ ترد على المدعى عليهم لأنه أصل النكول، فيحلف المدعى عليه خمسين أو يحلف عنه رجلان فأكثر من ولاته إن رضوا خمسين بذلك، ولا يحلف هو معهم، قاله ابن القاسم، والثاني عنه‏:‏ يحلف منهم رجلان فأكثر خمسين تردد الأيمان عليهم، ويحلف فيهم المتهم؛ لأن الأصل ‏(‏فإن نكلوا، أو لم يوجد غير المتهم، لم تبرأ حتى يحلف المتهم وحده‏.‏ قال مطرف‏:‏ ويحلف المدعى عليه وحده، وليس عليه أن يستعين بأحد؛ لأنه الأصل‏)‏ وإن

وجبت القسامة بشاهدين على الجرح فقولان‏:‏ قال ابن القاسم‏:‏ يرد على المدعى عليه فيحلف‏:‏ ما مات من ضربي، فإن نكل سجن حتى يحلف، فإن حلف ضرب مائة وسجن سنة، وإن أقر قتل‏.‏ وفي الموازية‏:‏ يقتص منه من الجرح إن نكل الأولياء حلف المدعى عليه أو نكل؛ لأن الجرح ثبت بشاهدين، وإن ثبتت القسامة بشاهد على القتل لا يقتص من الجرح، حلف القاتل أو نكل؛ لأنه لا يقتص من الجرح ‏(‏إن نكل الأولياء حلف المدعى عليه‏)‏ إلا بيمين المجروح لا يمين الوارث‏.‏ وعن مالك‏:‏ إذا ردت عليهم في العمد فنكلوا فالعقل في مال الجارح خاصة، ويقتص منه من الجرح سوي العقل، وعنه إن حلف ضرب مائة وحبس سنة، أو نكل حبس حتى يحلف ولا دية فيه، قال‏:‏ وهو الصواب‏.‏ والقول الثاني‏:‏ لا يرد عليه؛ لأن يمينه غموس، وعلى هذا إذا أقر لم يقتل، قاله أشهب‏.‏ وإن نكل بعض ولاة الدم وهو سواء في التعدد‏.‏ فثلاثة أقول‏:‏ قال ابن القاسم‏:‏ يبطل الدم والدية، وليس لمن بقي أن يقسم لأن الدم لا يتوزع، وقال أشهب‏:‏ لمن بقي أن يحلف ويأخذ حظه من الدية لإمكان توزيعها، وقال ابن نافع‏:‏ إن نكل عفونا، قال أشهب‏:‏ أو توزعا حلف الباقون وقتلوا‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ قيل‏:‏ يجبر كسر اليمين على من عليه أكثرها، وقيل‏:‏ على من عليه أكثر الأيمان، فإن كانوا زوجات وبنات وأخوات، فإذا قسمت الأيمان عليهن جبر الكسر على الأخوات؛ لأن حظهن منها أكثر، وعلى البنات؛ لأن أيمانهن أكثر عند أشهب‏.‏ وعن ابن كنانة‏:‏ لا يجبر الإمام عليها أحدا، بل لا يعطوا حتى يحلفوا بقية الأيمان‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ فإن نكلوا في الخطأ فخمسة أقوال‏:‏ ترد على العاقلة فيحلفون كلهم، وإن كانوا عشرة آلاف والقاتل واحد منهم فلا يلزم الحالف شيء، ويلزم الناكل ما عليه، قاله ابن القاسم، وهو أبين الأقاويل؛ لأنه قاعدة النكول، ويحلف من العاقلة خمسون رجلا يمينا وتسقط الدية، فإن حلف بعضهم برئ، ولزم بقية العاقلة الدية كاملة حتى يتموا خمسين يمينا، قاله ابن القاسم‏.‏ والثالث‏:‏ إن نكلوا فلا حق لهم، أو بعضهم فلا حق للناكل، ولا يمين على العاقلة؛ لأن الدية لم تجب عليهم بعد قاله بعد الملك‏.‏ والرابع‏:‏ يرد على المدعى عليه وحده إن حلف وإلا لم يلزم العاقلة شيء؛ لأنها لا تحمل الإقرار قاله مالك‏.‏ الخامس‏:‏ يرد على العاقلة؛ إن حلف برئت أو نكلت غرمت نصف الدية قاله ربيعة، وقضى به عمر رضي الله عنه على السعدين‏.‏

تنبيه‏:‏ في المنتقى‏:‏ لا يحلف من جهة المقتول في العمد إلا اثنان، ومن جهة القاتل واحد، وهو القاتل‏.‏ والفرق‏:‏ أن جهة المقتول إذا تعذرت بعدم اثنين فلهم ما يرجع إليه وهو جهة القاتل، وإذا لم يقبل من القاتل عند عدم الأولياء لم يجد ما يرجع إليه في براءته منه، وكانت الأيمان في الرد خمسين؛ لأنها غير مردودة، وكانت الأيمان في الرد خمسين؛ لأنها رددت في الجهتين كاللعان‏.‏ قال مالك‏:‏ ليس لولاة القاتل كانوا واحدا أو جماعة إلا الاستعانة بأولياء المقتول، لأنهم يبرئون أنفسهم، وخالفه أصبغ، وإذا اقتصر على القاتل وحده حلف خمسين يمينا، والفرق بين الأيمان والحالفين‏:‏ أن الضرورة تدعو للاقتصار عليه كما تقدم، ولا ضرورة في الأيمان ولا يكمل بعض الورثة عن بعض ‏(‏شيئا كما

يكملها بعض العصبة عن بعض في العمد‏)‏؛ لأنه مال لا يحتمل أحد فيه اليمين عن غيره‏.‏

فرع‏:‏

في النوادر‏:‏ قال مالك‏:‏ إذا أتهم جماعة فلا بد من حلف كل واحد يدفع عن نفسه، ولعله لو أقسم الأولياء أقسموا عليه، ولكل واحد الاستعانة بعصبته حتى ينوب كل واحد يمين، فإن كانوا من فخذ واحد، فلمعين هذا أن يعين ذلك، أو من أفخاذ فلا يستعين أحد بغير عصبته وليس لمعين إذا كانوا عصبة واحدة أن يجمعوا فيه، فيقولون‏:‏ ما قتله فلان ولا فلان، ويستعين المتهم بالمتهم الآخر مع العصبة؛ لأنه عصبة له‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ قال مالك‏:‏ يحلف من بإعراض المدينة إليها في القسامة، فإن كانت مدينة النبي صلى الله عليه وسلم حلفوا عند المنبر بعد الصلاة، وفي غيرها في الجوامع يحلفون قياما على رءوس الناس فيقسم بالله الذي أحيى وأمات، والذي أخذ به ابن القاسم‏:‏ والله الذي لا إله إلا هو، فقط‏.‏ وزاد المغيرة‏:‏ الرحمن الرحيم‏.‏ قال أشهب‏:‏ إن قال‏:‏ والله الذي لا إله إلا هو، أو والله فقط؛ لم يقبل حتى يقول‏:‏ والله الذي لا إله إلا هو لهو ضربه، ومن ضربه مات، وإن قالوا‏:‏ لهو قتله، ولم يذكروا الضرب، وهو مضروب، جاز، وقال عبد الملك‏:‏ يقول‏:‏ والله الذي لا

إله إلا هو عالم الغيب والشهادة لقد مات من الضرب الذي شهد عليه فلان وفلان، إن فلانا ضربه إياه، والنظر في التغليظ في اليمين إلى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت‏)‏ وكان عليه السلام يحلف بما قاله مالك، أو ينظر إلى عظم الدماء، والقياس على التغليظ بالمكان والحلف على البت لا على العلم‏.‏ وعن أشهب‏:‏ يحلف الصغير إذا كبر على البت بناء على الشهادة، قياسا على الحلف في الدين بناء على الشهادة، ‏(‏يحلف على البت‏)‏ وهاهنا أولى لحرمة الدماء‏.‏ قال صاحب القبس‏:‏ يكفي الظن في الأيمان مستندا في الحلف على البت؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض الأيمان على من لم ير القتل من الحارثيين‏.‏

تنبيه‏:‏ وافقنا في تقديم المدعين ‏(‏ش‏)‏ وأحمد، وخالفنا ‏(‏ح‏)‏ فقال‏:‏ يقدم المدعى عليهم‏.‏ لنا‏:‏ حديث ابن سهل؛ احتجوا بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏البينة على من ادعى واليمين على من أنكر‏)‏ رواه مسلم وغيره، وفي أبي داود ‏(‏أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ باليهود قال‏:‏ يحلف منكم خمسون رجلا فأبوا، فقال للأنصار‏:‏ أتحلفون‏؟‏ قالوا‏:‏ نحلف على الغيب‏؟‏‏)‏ وقياسا على سائر الدعاوي‏.‏

والجواب عن الأول‏:‏ من وجوه أحدها‏:‏ أن في بعض طرقه‏:‏ إلا في القسامة‏.‏ وثانيها‏:‏ أنا نقول بموجبه، فإن المدعي هو من كانت دعواه على خلاف الظاهر بلوث أو غيره‏.‏ وثالثها‏:‏ أن حديث ابن سهل أخص من هذا الحديث، والخاص يقدم على العام‏.‏

وعن الثاني‏:‏ أن روايتنا أثبت سندا فتقدم‏.‏

وعن الثالث‏:‏ أن هذا القياس ينقلب عليكم، فإن سائر الدعاوي إنما يحلف من رجح ببر أو شاهد أو غير ذلك، وهذا رجح جانبه باللوث أو غيره؛ فيحلف كسائر الدعاوي‏.‏

الركن الخامس‏:‏ فيما يترتب على القسامة، وهو إما القصاص أو الدية‏.‏ وفي الكتاب‏:‏ إن ادعوا على جماعة، وأتوا بلوث أو بينة على أنهم حملوا صخرة فرموا بها رأسه، وعاش بعد ذلك أياما وأكل وشرب ومات؛ أقسموا على واحد أيهم شاءوا وقتلوه، ولا يقسموا على جميعهم ويقتلوهم، ويقسمون في الخطأ على الجماعة، وتفرق الدية على عواقلهم في ثلاث سنين، وكذلك إن شهدت بينة أنهم جرحوه خطأ فعاش أياما، فليس لهم أن يقسموا على واحد ويأخذوا الدية من عاقلته، بل على الجميع، وبعض الدية على عواقلهم، والفرق‏:‏ أن في الخطأ يقول‏:‏ الضرب منا أجمعين، فلا تخصوا عاقلتي بخلاف العمد، قال ابن يونس‏:‏ قال مالك‏:‏ إذا أقسموا على واحد، قالوا في القسامة‏:‏ لمات من ضربه ولا يقولون‏:‏ من ضربهم؛ لأن الأصل‏:‏ مطابقة اليمين للدعوى، قال أشهب‏:‏ لهم أن يقسموا على اثنين وأكثر، وعلى جميعهم لعموم اللوث فيهم، ولا يقتلون إلا واحدا من المقسم عليهم؛ كأن يقول الميت‏:‏ قتلني فلان وفلان، أو ضربوني أو شاهد على القتل فمات مكانه، أو عاش أياما، إن أقسموا عليهم وهم رجال ونساء وصبيان، فلا يقتلوا إلا بالغا رجلا أو امرأة، وعلى عواقل الصبيان حصتهم من الدية، فإن كان الرجال والنساء عشرين، والصبيان خمسة، فعلى عواقلهم خمس الدية، خمس الخمس على عاقلة كل صبي؛ لأنه من أصل دية كاملة، قال مالك‏:‏ إن قال‏:‏ ضربني فلان، وفلان أنفذ مقاتلي، فلا يقسموا إلا عليه؛ لقوة سببه، وعلى الباقين الضرب والسجن، وإذا قال لهم‏:‏ أقسموا على فلان ليس لهم

أن يقسموا على غيره؛ لأن قول الميت مقدم؛ لأنه أعلم، ولا يقبل منه في الخطأ، ويقسموا على الجميع؛ لأنه يتهم في الوصية بالدية وينظر إلى حصة من أبرأه إن حملها الثلث سقطت، قاله في المجموعة‏.‏ وقال ابن القاسم وأشهب‏:‏ هو مثل العمد، ولا يقسموا إلا على من عينه؛ لأنه أعلم، ويلزم عاقلته حصتهم إن قالوا‏:‏ لا يقسموا إلا على فلان، وإن قال‏:‏ لا شيء على الآخرين من الدية، ولم يسع الثلث، خير الورثة في القسامة على ذلك وحده، ويجبروا وصيته أو يقسموا عليه ويحاصص الموصى لهم إلا أن يقسم المقسم عليهم في الثلث، ويوضع عن كل وارث ما ينوبه في الثلث، وما بقي على عواقلهم، وعلى الذي أمر أن يقسم عليه ما ينوبه من الدية أقسموا عليهم أو عليه وحده، وإن قالوا‏:‏ لا نقسم إلا على جميعهم فذلك لهم ضاق الثلث أم لا، ويسقط عن الموصى لهم ما عليهم إن جرحه أحدهما عمدا، والآخر خطأ، وثبت ذلك بالبينة أقسموا ‏(‏عليهم أو عليه وحده، وإن قالوا لا نقسم إلا على جميعهم فذلك لهم، ضاق الثلث أم لا، وسقط عن الموصى لهم ما عليهم، وإن جرحه أحدهما عمدا والآخر خطأ، وثبت ذلك بالبينة أقسموا‏)‏ على المتعمد وقتلوه وأخذوا من الآخر عقل الجراح إن عرفت جناية الخطأ من العمد، أو يقسموا على الخطأ عليهم؛ ليستفيدوا من الجرح ويأخذوا الدية، وإن لم يثبت الجرحان إلا بقول الميت فكالبينة، قاله ابن القاسم، وقاله سحنون‏.‏ كذلك إن عاش، وإن مات مكانه خالفت البينة قول الميت، قال ابن القاسم‏:‏ إن مات من ضربهما مكانه قتل المتعمد، وعلى عاقلة الآخر نصف الدية‏.‏ قال محمد‏:‏ إذا لم يكن جرح الخطأ معروفا بعينه، قال

مالك‏:‏ إن أقر بالقتل غير من وجبت القسامة عليهم قتل، وأقسم الأولياء على كل واحد من هؤلاء وقتلوه، وذلك بإقراره، وهذا بالقسامة، وقال ابن القاسم‏:‏ لا يقتل إلا واحد من ‏(‏المقربين أو المقسم عليهم، وعنه‏:‏ يقتل المقر‏)‏ بقسامة، وعنه‏:‏ بغير قسامة، بل بإقراره؛ لأنه سبب مستقل، وإن أقسموا على واحد وأرادوا العدول لغيره، امتنع، ثم إن تركوه بذاة امتنع قتله أو عصبه على الثاني ونزاهة فلهم قتل الأول‏.‏ وإن قال‏:‏ قتلني فلان وأناس معه، وثبت أن قوما ضربوه أقسموا على أيهم شاءوا‏.‏ قال اللخمي‏:‏ إن حملوا صخرة فدمغوه بها، أو سقطت من أيديهم فلا يقسموا إلا لمات من تلك الضربة، ويقتلون في العمد، والدية في الخطأ إلا أن يقصدوا القسامة لما هو آمن ويتركوا الأخوف؛ فمن حق صاحب الضربة أن لا يمكنهم من ذلك، وإن تعاونوا عليه عمدا أقسموا‏:‏ لمات من كل الضرب وقتلوهم، ولو كان منهم الممسك لقتل به، لإشتراكهم في السبب، وإن لم يقصدوا التعاون وإحدي الضربات نافذة، ولا يعلم ضاربها، ولا يعلم أنها قتلت واختلطت الضربات أقسموا‏:‏ لمات من ذلك الضرب‏.‏ وتفرق الدية عليهم في أموالهم، ويسقط القصاص للنفس، ومثله إن مات بالفور، وقالوا‏:‏ لا ندري أي الضربات قتله، أو نفذت إحداها مقاتلة ولا يدرون أيهم ضربها، أو ضربه أحدهم عمدا، والآخر خطأ، ومات بالحضرة فلا يقتل المتعمد؛ لعدم تعينه، وعليه نصف الدية، وفي تحمل عاقلة المخطئ نصف الدية قولان؛ لأنه يحمل بالشك، ولا يسقط نصف الدية عن المتعمد؛ لأن الظالم أولى أن يحمل عليه، فإن كان الضربتان خطأ وشكوا في القاتلة فيختلف هل تفض الدية على

عاقلتهما أو تسقط للشك‏.‏ وفي الجواهر‏:‏ لا يقتل بالقسامة إلا واحد؛ لأنه المتحقق‏.‏ وقال المغيرة‏:‏ يقتل بها الجماعة‏.‏

تنبيه‏:‏ ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ أحمد في قتل واحد، وقاله الشافعي في القديم، وعنه‏:‏ تقتل الجماعة بها، وقال ‏(‏ح‏)‏ و‏(‏ش‏)‏ في الجديد‏:‏ لا يقتل بالقسامة أصلا بل الدية‏.‏ لنا‏:‏ حديث ابن سهل وقوله عليه السلام فيه‏:‏ ‏(‏وتستحقون دم صاحبكم‏)‏ فجعل الدم مستحقا بالحلف، وفي بعض طرقه‏:‏ ‏(‏يحلف خمسون رجلا منكم على رجل منهم فيعطى برمته‏)‏؛ ولأنهم ادعوا العمد، وموجبه‏:‏ القصاص، وقياسا على ما إذا نكل المدعون؛ ولأنه مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قتل بالقسامة، احتجوا بأنها أيمان فلا يقتل بها كالشاهد واليمين؛ ولأنه تخمين، فيكون فيه شبهة‏.‏

والجواب عن الأول‏:‏ الفرق أن هذه خمسون يمينا، ولا قياس قبالة النص فيكون باطلا‏.‏

وعن الثاني‏:‏ ليس مجرد الاحتمال مانعا، وإلا لما اقتص مع البينة لقيام الاحتمال، فلم يبق إلا اعتبار الظن الغالب، وهو حاصل من خمسين يمينا، ولا قياس‏.‏ واحتجوا على قتل الكل بأنها حجة يقتل بها الواحد فيقتل بها الجمع كالبينة، وجوابه‏:‏ الفرق أن البينة شاهدت وعاينت الحالة، وهاهنا لم يتعين ولم يدر فقتلنا الجميع‏.‏